الاثنين، 28 أبريل 2014

خشبة المسرح



خشبة المسرح


بقلم ميشال مرقص

سنة 2003 - النهار

لم تفتح ستارة التاريخ ، إلاّ نادراً ، على مشهد محض استقلاليٍّ للوطن الصغير ، فالحقب القديمة كما الحقب المعاصرة والحديثة، قولبت إرادة هذا الوطن ورهنتها بإرادة       "الباب العالي  " ، الذي كان وما يزال حاضراً ليشكّل معيار التوازن بين فئات هذا الوطن وعلى حسابهم  . وأحياناً كثيرة ، كان يوجد بابٌ عالٍ لكل طائفة ومذهبٍ وحزب وجمعية ونقابة ... فيتحكم هذا " الباب العالي " دائماً بإرادة الشعب طالما بقي هذا الشعب منقسماً على نفسه ، ويتقلّص ظلّ " الإرادة السنيّة " كلّما تماسك بنيان الشعب والتحمت إرادته في وحدةٍ وطنية منزّهة عن المصلحة الشخصية الخاصة . هذه الأخيرة هي التي تسببت وتتسبب دوماً بإيجاد  "الباب العالي " وديمومة كينونته ، طالماً أنه يؤمّن لها المركز والمال غير الحلال ويتقاسم معها " ماوية " الوطن حتى يجفّ الضرع وييبس الزرع وتشح الموارد المالية . فمع كل " إرادة سنيّة"  كوبليان جديد ( كما في عهد المتصرف واصا باشا )  ، أو " كوبليانيون " ، ليس بالضروري أن تكون مصاهرتهم انتساب رحمٍ بل انتساب  جيوب  وتوزيع مغانم .


فمسؤولية " الباب العالي " مهما كانت جنسيته عبر التاريخ ، لا تنحصر بكونها مسؤولية سياسية فقط ، بل هي أيضاً مسؤولية اقتصادية . فالنمو والازدهار لم يعرفهما لبنان ، إلاّ نسبياً ، في ظل حكم أيّ " باب عالٍ " ، إذ كان في الغالب  ينوء تحت أعباء الضرائب والرسوم والديون وتناقص الثروات ووضع اليد على الخيرات الطبيعية ، لا سيّما بعض المناجم التي لم يعرف لبنان ان يستفيد منها أبداً ، كما وعلى خزينته العامة . وفي كل مرّة ينتهي دورٌ لبابٍ عالٍ ، يكون الوضع المالي في الوطن متدهوراًً والوضع الاقتصادي مشلولاً وقيمة العملة الوطنية متدنية ، وأبناء الوطن بين " سدّان الهجرة ومطرقة الفقر " . وهذا الواقع التاريخي ، ولغاية اليوم ، هو نتيجة حتمية للتفاعل المتبادل والمتين ، بين حماة المصالح المشتركة . فاصطفاء " الباب العالي " للحكّام المحليين ، يشيّد سوراً لحمايتهم ويعزّز حصانتهم  تجاه كلّ ما يقومون به ويرسمونه ويقرّرونه وينفّذونه ، فلا تعود تحكمهم قوانين ولا يلجمهم حياء ولا يهدئ من جموحهم حال فقر مستدام أو قتل وطن . بل يكتفون بتوزيع بعض         " الإعاشات المالية" لقطاعات من دون غيرها ، ويرفعون إثرها يافطات بالدعوة إلى تعزيز الوضع الاجتماعي ومساعدة الناس .

ولا تكمن الأهميّة في رصد المبالغ المالية المخصصة للرعاية الاجتماعية والدعم الاقتصادي وإقفال باب العودة إلى القرى المهجّرة ، أو في حجمها ، بل تتجلّى في معرفة طريقة  إنفاق المخصصات ومعرفة أقنية انسيابها والمبالغ التي سيحصل عليها مستحقوها ، فالخارج من الخزينة كبير والواصل إلى المواطن قليل وطرق الالتواء أكثر بكثير من سبل الاستقامة . إن  تاريخ الرشوة والارتشاء والفساد وثمن المناصب تثـقل ستمئة عام من التاريخ المعاصر على الأقل ، هي في كل زاوية فيه وتحت كل كلمة وبين الحروف والفواصل حتى لتكاد تضاهي الحديث عن  التقدم العلمي والازدهار الثقافي والتطور الفكري والفني والفلسفي والاقتصادي ، أو تغطي عليه . ويقترن ، في سرد تاريخ الفساد ، اسم المسبب به في  الداخل على أنه المسؤول مرفقاً باسم ممثّل " الباب العالي " الذي لم يستطع أن يضبط سوء أعماله ، إذا لم يكن مشاركاً له .

لقد شهدت الفترة الأخيرة ، من هذه السنة ، كلاماً مسؤولاً عن الفساد والفاسدين ، وإيحاءً بوضع حدٍّ للاثنين معاً وكشف الحقائق وهتك أسرار المتآمرين على المالية العامة ، وإعلان كل ما هو محظور نشره بشفافية تامة ، فارتفعت وتيرة  الشجاعةً الكلامية بما لا يعلو عليها شجاعة ولا فروسية . لكن مسار الأمور لا يوحي بالجدية ، فالفساد ، المشار إليه ، إنما حصل في ظل مرحلة ما بعد الطائف ذات اللون الواحد والاتجاه السياسي المرسوم واللاعبين السياسيين أنفسهم ، ولا يمكن للحاكم أن يحاكم نفسه ، لأنه إذا بلغ الحاكم هذه المرتبة الطوباوية فلا يكون حتماً ممن تسبب بالفساد . لذلك سيترك الأمر للتاريخ الذي سيقرن ، عند التقويم ، أسماء الذين تسببوا بالفساد وإهدار المال إلى جانب اسم الحامي أو الحماة والمشاركين .  لكن مَن يخشى من التاريخ وحكمه وأيّة محكمةٍ ، في الوطن الصغير ، قادرة على أن تصدر أحكاماً على جرائم حصلت في حقبٍ تاريخية سبقت  حين أن ملفّات كثيرة ،  في حق من اتهموا بإهدار المال العام وسرقته ، قد طويت وسحبت من التداول وما تزال مواكب إقفالها تتوالى ؟ إن تاريخ الفساد الحديث ، يوجع المواطنين ولا يؤلم الفاسدين ، فهو  يذكر مراحل الإصلاح الإداري وتعثرها بحسب العهود والأشخاص والنتائج ولا أحد يقبض منه غير الكلام والتندر به ، رغم أنه لو أحصيت الأموال التي تم إنفاقها على المشاريع والدراسات وتمّ تقويم ما نفّذ بها ،  لأمكن الجزم بأن ثروات معظم المسؤولين ومن يتعاطى معهم لم تُجبَ بعرق الجبين .

إنّ عهداً من الإنفاق الهائل اقترن بالكثير من الكلام عن الفساد والسرقات وازدياد الدين العام ، وما يزال هذا الواقع مستشرياً ، مع فارق أنه يمثّل حالة هستيرية في اللامبالاة وفي صمّ الآذان . وهذا التمادي غير المسؤول ما كان ليحصل لو كانت المحاسبات السياسية قائمة وممكنة  ولو كانت المحاسبة القضائية قادرة على قطاف الرؤس الكبيرة أو لو كانت العقوبات تتجرّأ على أن  تتجاوز التوقيفات والتشهير وقفل الملفات إلى ... إلى استرداد المال العام ، تماماً كما تفعل المؤسسة الخاصة ، التي إذا ما سلبها موظفٌ لديها ، مالها اتهمته وأحالته إلى القضاء وسجنته واسترجعت مالها أو ما بقي منه على الأقل . فمن يعيد إلى الخزينة العامة أموال الدولة المسروقة أو المهدورة ؟

إن الكلام عن الإنفاق العام والاقتراض لسداده أمرٌ قد يكون جيّداً في المطلق ، لكن الأموال المحققة بفعل الاقتراض والدين وسندات الخزينة ، وإن كانت مبالغ كبيرة ، لم تؤدِّ لغاية الآن إلى النهضة المتوخاة للوطن الصغير ، بل هي بفعل الإهمال واللامبالاة تشبه إلى حدٍّ بعيد حوض سباحة مملؤاً عسلاً لا يجيد أحد السباحة فيه مهما كان ماهراً بل يؤول إلى الاختناق والفطيس .

لقد أظهرت وقائع سلوكيات السياسة المحلية في الوطن الصغير ، أنّه بات خشبة مسرحٍ، كلّ مسؤول أو فريق يصعد إليها ويلعب دوراً خاصاً به من دون أن تكون للدور صلة بمسرحية أو ارتباط بنص لها ، وتكون الصالة خالية من الحضور . فلغاية الآن لا نسمع أو نقرأ نصّاً موحداً لمسرحية كاملة ، ولا يتفاعل الممثلون مع بعضخم ، أما جمهور الحضور فقد يئس من رداءة التمثيل ، وما تزال الستارة ، في رفعها وإسدالها ، رهينة إرادة " الباب العالي " .



الجمعة، 14 مارس 2014

عبادة الله وعبادة المال ما من أحدٍ يستطيع أن يعملَ لسيّدين





عبادة الله وعبادة المال
 ما من أحدٍ يستطيع أن يعملَ لسيّدين

 
              البابا فرنسيس يحملُ صليبًا من فضّة لا تمثالَ لمصلوبٍ عليه

      ينقلُ متى عن يسوع (6: 24) "ما من أحدٍ يستطيع أن يعملَ لسيّدين، لأنه إما أن يَبْغُضَ أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يلتزم أحدهما ويزدري الآخر. لا تستطيعون أن تعملوا لله والمال ". لم يلجأ يسوع عندما شَخْصَنَ المال ومنحه إسم "مامون"، إلى وسيلة خطابية بسيطة ليمجّد قوّة الغنى. فهو عنى بذلك أن المال ليس مادةً أو متعًا، يبقى الإنسانُ حرّا في تملكّه أو لا. في كلَّ وقتٍ ، يمكن للمال أن يصير إلهًا، تُكرّس الحياة له.
     بالنسبة إلى الإنجيل، لا تؤسِّسُ العلاقةُ بالمال، فهي أولاً مسألةٌ أخلاقية، بل مسألةٌ من مستوى روحي. لا يستفسر يسوع عن الطريقة التي يُستخدم بها المال. عندما يتحدّث عن الثروات، يسأل على أي أساس تُبنى الكينونة: على أي أساس يَبني الإنسان حياته؟ وأي إله يتخذ له؟ يُمكن للمال أن يصير إلها. ما معنى إذًا " تخدمُ مامون"، هل يعني أن يستثمرَ المرءُ وجوده في خدمة المال؟ هنا يبدو الوصفُ إيحائيًا: فكلمة مامون تأتي من الجذر الآرامي "أمان" ما يعني الاستقرار، ومنها كلمة "أمين"، بها نؤكّد أن الصلاة هي حقيقة. فـ"مامون" تعني صُلب، مستقر، موضع ثقة. "مامون" هو ضمان الاستقرار.  (2)


...فالغنى لا يضمنُ حياةً أطول

ويضربُ يسوعُ في هذا المجال، مثل الغني الجاهل، ردًّا على من طلب منه التدخل عند شقيقه ليقاسمه الميراث، ( لوقا 12: 13) وفيه يدحض أن تكون الثروة ضامنة لبقاء الإنسان:
"رجلٌ غنيٌّ أخصبتْ أرضه، فقال في نفسه: ماذا أعمل؟ فليسِ لي ما أخزنُ فيه غلالي. ثمّ قال: أعملُ هذا: أهدمُ أهرائي، وأبني أكبرَ منها، فأخزُنُ قمحي وأرزاقي. وأقولُ لنفسي: يا نفسُ، لكِ أرزاقٌ وافرةٌ تكفيكِ مؤونةَ سنين كثيرة، فاستريحي وكُلي واشربي وتنعّمي. فقال الله: يا غبي، في هذه الليلة تُستَرَدُّ نفسكَ منكَ، فلمن يكونُ ما أعددتَه؟ فهكذا يكون مصيرُ من يَكنَزُ لنفسه ولا يغتني عندَ الله" (لوقا 12: 16-21).
   
ويعني تكديسُ الثروات، من قِبَل هذا المالك الكبير، القلق من الغد، الخوف من الحاجة. في إرادته، أن يؤمّن على حياته بتحقيق الوافر من الثروات، فتلعبُ لديه المكافحة تجاه عدم الثبات، والقلق في مواجهة الفقر. يطمئنُّ الغني، ولا يعودُ يخشى حتّى الموت، "استريحي  يا نفسي"، لكنّ السخرية تبرزُ في وقتٍ اعتقدَ أنّه انتصرَ على ضعفه. ففي جاذبية المال يتربّصُ الموت. لأن المال يقدّم هنا كأنّه ضمانٌ ضد الموت. أو بالأحرى: إذا استُثْمِرَ المالُ كصنمٍ مخلّص، أو حصنٍ مميّز للخوف من الموت، يترك  وضعه كشيء ليصير مامون. "مامون" الذي يحمي من الموت.
يصفُ الإنجيل سلطان المال بقوله‘ إنه يتعلَّق  بـ "مامون جائر" (المال الحرام)، (لوقا 16، 9: 11). ويتقدّمُ سببان في الإجمال، لتكديس المال الحرام، من دون أن ينفي أحدُهما الآخر. تشيرُ العبارة أولاً، ومن دون مواربة، إلى أن المال يدور في نظامٍ اقتصادي مولدٍ للظلم. قبل كارل ماركس، قالها يسوع! لكنّ المال بخاصةٍ خدّاع لأنه لا يقدّم ما يعد به. فوعود هذا "الإله" هي أوهام، لأنها لا تحوّل عجزنا إلى قوّة، ولا ضعفنا إلى أبدية. "مامون" لا يقدّم الضمانات التي ننتظرها منه.

عبارة "مامون الجائر" هي ذات شفافية فجّة. توحي للذين يكدّسون المال، بأنهم شركاء في نظامٍ اقتصادي ظالم، وهم في الوقت ذاته، ضحايا وهمٍ قاتل. هل هذه الكلمة الأخيرة في الموضوع؟ لا ، لأن الإنجيل يُسجّلُ إلى جانب هذه المسلّمة، منفذًا من دون مجاملة. ويسمحُ لقاء يسوع وزكّا العشار بتقدّم خطوة، باختياره تغييرًا ممكنًا في استخدام المال.
     (1)   - في الكتاب المقدّس – دار المشرق – العهد الجديد – حاشية صفحة 54:الترجمة اللفظية: "مامون" هذا اللفظ يجسّد "المال" كسلطان يستعبد العالم.
-     وفي المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم – الدكتور الخوري بولس الفغالي – المطبعة البولسية – الطبعة الأولى 2003 صفحة 1125 : مامون الآرامية: الغني. المأمون والثابت المال. المال وكأنه شخصٌ حي وقوّة تستعبد العالم(مت 6؛24؛ لو 16؛13 و16؛9 ).
-     مامون من أمن أي اطمأنّ إلى أمره.
  
(2)   Le monde de LA BIBLE  العدد 172، تموز – آب 2006، دانيال مارغيرات "الله والمال" صفحة 17. 



من كتابي – الإقتصاد في الإنجيل

ميشال مرقص


الأحد، 9 مارس 2014

اقتصاد الجماعة – بمحبّة - 2- الإنقلاب ضدَّ الأغنياء





اقتصاد الجماعة – بمحبّة

2 – الإنقلاب ضد الغنى


                                           لتكونَ كاملاٍ وزّع أموالَكَ على الفقراء


يُعتبرُ محتوى "الدينونة العظمى"، منطلقًا لاقتصادٍ مسيحيٍّ سليمٍ، وضعَ له يسوع أسسًا في صورةٍ غير مباشرة. فهو حاول أن يكلّمَ سامعيه بالأمثال "ليفهموا"، فإذا بملكوتِ الله يُشبه الاستثمار الاقتصادي في مفهومه السامي. ولولا سمو المفهوم الاقتصادي عند يسوع، لما شبّه به ملكوت الله. فالتشبيه يفترض الموازاة بين المشبّه والمشبّه به، وإلاّ اختلَّ التشبيه. صحيح أن دعوة يسوع تُركّز على الاكتناز في ملكوت السموات، لأنه "حيْثُ يكونُ كنزكَ يكونُ قلبكَ"، لكنّه لم يمنع الاكتناز في الحياة الأرضية. إذ كيف يستطيع المؤمنون أن يقدموا المأكل والمشرب والكساء والمأوى إلى المحتاجين إذا لم يعملوا. في هذا المجال يقول يعقوب في رسالته (2: 14 -17): "ماذا ينفعُ يا أخوتي، أنْ يقولََ أحدٌ إنّه يؤمنُ، إن لم يعملْ؟ أبوسعِ الإيمانٍ أن يخلِّصه؟ فإن كان فيكم أخٌ عريانٌ أو أختٌ عريانةٌ ينقُصهما  قوتُ يومهما، وقال لهما أحدكم: اذهبا بسلامٍ فاستَدْفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما يحتاجُ إليه الجسد، فماذا ينفعُ قولكم؟ وكذلك الإيمانُ، فإن لمْ يقترنْ بالأعمال كانَ ميتًا في حدّ ذاته". ويُتابع: "إن الإيمان من غيرِ أعمالٍ شيئٌ عقيم".
من هنا تعتبرُ الدعوةُ إلى الإنتاج من أركان الاستثمار الاقتصادي، وإلى الاستثمارِ العملُ الجيّدُ والاكتنازُ لمساعدة الآخرين، والتفاهم بين الأخوة بعيدًا عن الطمع والجشع.
محورُ الاقتصاد المسيحي "المحبة"، التي هي بالتأكيد محورُ سلوك المسيحي في حياته. فالحسابات الاقتصادية الدقيقة في أمثال يسوع تعبّرُ عن الدقّة التي يجب أن يعتمدها المؤمنُ في حساباته ليدخلََ ملكوت الله، أو يستحقَّه.
لكنَّ هذا المحور يختلف عمّا سبق وأملاه العهد القديم. فالتوراة العبرانية  "لا تضع في المواجهة التعلق بالثروات وخدمة الله، بل على العكس تثمّن الغنى وتعطي للغنى معنى لاهوتيا" .

الانقلاب ضدَّ الغِنى
يُحدِثُ يسوعَُ انقلابًا إزاء الغنى ويتخذ في انقلابه طابع القسوة: "الويلُ لكم أيها الأغنياءُ، فقد نلتم عزاءكم (لوقا 6: 24)، وهي لهجةُ إدانةٍ مطلقة. و"تبرز هذه الإدانة بكلِّ أبعادها لدى المقارنة بين التطويبات والويلات في موعظةِ الجبل، وبما وعد سفرُ تثنية الاشتراع، بحسب ما يكونُ إسرائيلُ أمينًا أو غير أمين للناموس (تثنية:28) وهنا تتعمّق الفجوة بين العهدين القديم والجديد".
يُعلنُ يسوع: لا يمكن أن تعبدوا سيّدين الله والمال (متى 6: 24) فينتصبُ المال سيّدًا بلا رحمة : إنّه يخنقُ عندَ الرجل الجَشِعِ، كلمةَ الإنجيل (متّى 13: 22)، حيث يقولُ يسوع في تفسيره لمثلِ الزارع "أمّا الذي زُرِعَ في الشوك، فهو الذي يسمعُ الكلمة، ويكونُ له من همِّ الحياةِ الدنيا وفِتْنةِ الغِنى ما يخنقُ الكلمة فلا تُخرِجُ ثمرًا". وتجاهَ قساوة قلوب الفريّسيين يقلبُ سلوكية المجتمع، إذ يطلبُ رحمةً لا ذبيحةً" (متى 9:13، وهي من قول هوشع 6:6)، لا يُبطلُ يسوع الذبيحة التقليدية بعد، لكنّه يذهبُ إلى أبعد من تقدمة الذبائح والتوقف عن العمل أيام السبوت، عندما يكونُ المرءُ في حاجةٍ إلى عمل رحمة، مثل غفران الخطايا وشفاء المرضى...
وعملُ الرحمةِ هذا لا ينطلقُ إلا من المحبّة، من الحبِّ الكبير الذي يستوجب التضحية. وهذا المحور يشكلُ قطبَ الحياة الاقتصادية لدى يسوع. هكذا يدخلُ المؤمنون ملكوت الله ويستحقونَ نعمةَ الخلاص.
ولا نُغفلُ أيضًا دعوة يسوع إلى عدم اكتناز "المال الحرام"، ويمكن لمن جمع المال الحرام أن يعود ويوزّعه على الفقراء ويتوقف تاليًا عن الاستمرار في جمع هذ النوع من المال.


ميشال مرقص
من كتابي "الإقتصاد في الإنجيل"


الخميس، 6 مارس 2014

اقتصاد الجماعة – بمحبّة




اقتصاد الجماعة – بمحبّة


1 – ما تفعلونه مع إخوتي الصغار فمعي تفعلونه 


السامري الصالح – جان دو لا كروا 1798-1863


ينقلُ الإنجليُّ متى عن يسوع، في الفصل 25 من الآية 31 إلى الآية 36، وتحتَ عنوان "الدينونة العظمى" في "الكتاب المقدّس"، قولَ يسوع واصفًا تلك الدينونة : "وإذا جاءَ ابنُ الإنسانِ (يسوع) في مجده، تواكبُهُ جميعُ الملائكةِ، يجلسُ على عَرْشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لديهِ جميعُ الأمم، فيفصلُ بعضَهم عن بعض، كما يفصِلُ الراعي الخِرافَ عن الجِداء. فيُقيمُ الخرافَ عن يَمينه والجِداءَ عن شِمالِه. ثمَّ يقولُ الملكُ للذينَ عن يمينه: "تعالوا، يا مَنْ باركهم أبي، فَرِثوا الملكوتَ المعدَّ لكم منذ إنشاءِ العالم: لأنّي جعتُ فأطعمتوني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعُريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليّ". متمّمًا وموضحًا أنَّ "كلّما صنعتم شيئًا من ذلكَ لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصِّغار (كل إنسانٍ محتاج)، فلي قد صنعتموه"، بخلاف الذين عن شِماله، الذين لعنهم لأنهم لم يفعلوا ما فعلَ "أهلُ اليمين"، فهم إلى "النار الأبدية... حيثُ العذاب الأبدي"، لأنّي، كما يضيفُ يسوع في الآيتين 42 و43 "جُعتُ فما أطعمتوني، وعطِشتُ فما سقيتموني، وكنتُ غريبًا فما آويتموني، وعرْيانًا فما كسوتموني ومريضاً وسجينًا فما  زرتموني". لأنّكم (الآية 45)، "أيّما مرّةٍ لم تصنعوا ذلكَ لواحدٍ من هؤلاء الصِّغار فلي لم تصنعوه".
ويعتمد يسوع في "الدينونة العظمى" المقاييس الاقتصادية والاجتماعية بين الجماعات المؤمنة، كوسيلةٍ للخلاص الأبدي. لم يتحدّثْ هنا عن مخالفات للوصايا او تجاوزات للشريعة، بل أوصى بطريقةٍ غير مباشرة بالتعاطف والتنازل عن بعض الثروات إلى الجائعين والعطشين والعريانيين والغرباء، حتى لا يعودُ جميعهم غرباء عن مجتمعهم. فالغريب هنا، الذي يأتي من بلاد او أمكنةٍ بعيدة لا يجدُ له مأوى في زمن يسوع، أمّا  الآن فتبدّلت الأحوال مع تطوّر الحضارة. والغريبُ أيضًا من لا يمتُّ بصلةٍ إلى الجماعة أو الأفراد، ويتصرّف معه هؤلاء كواحدٍ منهم. وفي الوقتِ ذاته، يشعرُ الجائع والعطِشَ والعريان بغربةٍ في مجتمعهم وفي ما بين أهلهم، لأنهم لا يملكون من الثروات ما يملكه أولئك، وحتى أنّهم لا يستطيعون أن يؤمنّوا قوتَ يومهم. فهم يحتاجون إلى طعام وماء وكِساء ومأوى وطبابة ورعاية وغيرها.
والاهتمام بهؤلاء "الغرباء" "القريبين"، لا ينبع إلاّ ممّن أحبَّ أخاه أي قريبه، وبالإسقاط البعيد جميع الناس. فالسامري (لوقا 10: 30 – 37)، هو الأقرب إلى اليهودي الذي "عرّاه اللصوص وانهالوا عليه بالضرب. ثمَّ مضوا وقد تركوه بين حيٍّ وميت"، لأنه "أشفقَ عليه، فدنا منه وضمّد جراحه، وصبَّ عليها زيتًا وخمْرًا ثمَّ حمله على دابّته وذهبَ به إلى فندق واعتنى بأمره. وفي الغد أخرجَ دينارين، ودفعهما إلى صاحب الفندق وقال: اعتنِ بأمره، ومهما أنفقتَ أؤدِّه أنا إليكَ عندَ عودتي". فالسامري، عدو اليهودي، يمثّل الترجمة الواقعية لكلام يسوع "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم"، بخلاف الكاهن واللاوي اليهوديين اللذين مالا عن الرجل المصاب.
ويُقيمُ يسوع في "الدينونة العظمى" توازنًا سيميتريًا بين المال والمحبة، فالمحبّة تقع إلى يمين الله وحبُّ المال إلى يساره"، وإذا كان المالُ سيّدًا تُمكن عبادتُه في موازاة عبادة الله، فإن وصيّة "المحبّة" هي في مستوى الوصيّة الأولى والأهم من بين الوصايا، "أحبب الله"، وتُشبهها وصيّة "أحبب قريبك". ويورد لوقا الوصيتين في واحدة "أَحْبِبْ الربَّ إلهك بكلٍّ قلبكٍَ، وكلِّ نفسِكَ، وكلِّ قوتِكَ، وكلِّ ذهْنِكَ، وأَحْبِبْ قريبَكَ حبَّكَ لنفسكَ". وتعني الوصيّة الثانية أن يُحقِّقَ المؤمنون العدلَ والمساواة في ما بينهم وبين المحتاجين من إخوةِ يسوع الصغار، أي الفقراء، فيقدموا لهم ما يحتاجونه من مأكل وكساء وماء ومأوى... في إطارٍ مفعمٍ بالمحبة، لا أن يكونَ العطاءُ للكبرياء والتفاخر ما يؤلمُ الكرامة الإنسانية ويُذلّها. يقولُ يسوعُ: "إيّاكم أن تعملوا برَّكم بمرأى منَ الناسِ لكي ينظروا إليكم، فلا يكونُ لكم أجرٌ عندَ أبيكُمُ الذي في السموات. فإذا تصدّقْتَ فلا يُنْفخْ أمامكَ بالبوقِ، كما يفعلُ المُراؤون في المجامعِ والشوارع ليُعظِّمَ الناسُ شأنهم. الحقَّ أقولُ لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنتَ، فإذا تصدّقتَ، فلا تعلمْ شِمالُكَ ما تفعلُ يمينُكَ، لتكونَ صدقتُكَ في الخُفْية، وأبوكَ الذي يرى في الخفية يُجازيك". ويرى بولس في رسالته الأولى إلى اهل قورنتس أنّه "ولو فرَّقْتُ جميع أموالي لإطعامِ المساكين،...، ولم تكنْ لي المحبّةُ، فما يُجديني ذلكَ نفْعًا" (13/3).

من كتابي الإقتصاد في الإنجيل

ميشال مرقص

الاثنين، 3 مارس 2014

ليسَ بالخبزِ وحده يحيا الإنسان (2)



        ليسَ بالخبزِ وحده يحيا الإنسان (2)



يسوع يطرد الباعة من الهيكل (دومينيكوس تيوتوكويولوس (المعروف بـ إل غريكو) 1541-1614)



قبلَ أن يباشرَ تعليمه الخلاصي، وإثرَ الانتهاء من صومه، أكَّدَ يسوع "للمجرّب" أنَّ الإنسانَ وإن كان يحيا بالخبزِ، إنما يحتاجُ إلى العملِ بكلمة الله ليحيا كاملاً. وتوازنت التجاربُ الثلاث بين ما هو جسدي مادي: الخبزُ وحكمُ الممالك، وروحي: كلامُ الله والسجودُ له وحده والنهي عن تجربته، (عصيانُ كلام الله لاختبار مدى صبره أو استغلال رأفته لمنافع شخصية كما في العهد القديم – حاشية الكتاب المقدس العهد الجديد صفحة 44).
 فيسوع لم يميِّز بين احتياجات الحياة الدنيا واحتياجات الحياة ما بعد الموت، بل رسمَ أخلاقيات الحياة الدنيا بهدف الاكتناز في ملكوت الله. وهو بطبيعته البشرية المتجسدة في إنسانه، عاش في شكلٍ طبيعي كان يجوع ويعطش ويصوم فيأكل ويشرب ويلبّي دعوات إلى المآدب والولائم، ويخطُّ في حياته نموذجًا للإنسان المؤمن من بعده.
من هذا المنطلق، وضع يسوعُ سلوكياتٍ للعيش وأخلاقياتٍ للتعاطي بين جماعة المؤمنين، أو بين الناس. فتعاليمُ يسوع تشملُ أيضًا "الدين والدنيا"، من دون التعاطي في السياسة أو "اشتهاء" الحكمِ السياسي. هذا شأنٌ آخر.
في إطار هذا الموضوع قاربتُ، بصفةٍ مدنية فقط، المفهوم الخاص بالاقتصاد من خلال تعاليم يسوع، مستعينًا بقراءات أخصّائيين ولاهوتيين ورجال دين وعلماء، وتبنّي مفاهيمهم بصورة كاملة في بعض المواضيع، ومعارضة بعض المفاهيم والشروحات التي توقفت عند المغزى الروحي فقط، ولمْ تتعدَّ البُعدَ الاقتصادي من جوانبه الظاهرة في شكلٍ مباشر إلى الجوانب غير المباشرة كما في مثل الكرّام والعاملين لديه، وفي أسباب لعنِ يسوع للتينة التي يبست. أو تجاوزًا في المقارنة بين كفتي الميزان في قول يسوع: "أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله".     


من كتابي – الاقتصاد في الإنجيل


ميشال مرقص