الاثنين، 28 أبريل 2014

خشبة المسرح



خشبة المسرح


بقلم ميشال مرقص

سنة 2003 - النهار

لم تفتح ستارة التاريخ ، إلاّ نادراً ، على مشهد محض استقلاليٍّ للوطن الصغير ، فالحقب القديمة كما الحقب المعاصرة والحديثة، قولبت إرادة هذا الوطن ورهنتها بإرادة       "الباب العالي  " ، الذي كان وما يزال حاضراً ليشكّل معيار التوازن بين فئات هذا الوطن وعلى حسابهم  . وأحياناً كثيرة ، كان يوجد بابٌ عالٍ لكل طائفة ومذهبٍ وحزب وجمعية ونقابة ... فيتحكم هذا " الباب العالي " دائماً بإرادة الشعب طالما بقي هذا الشعب منقسماً على نفسه ، ويتقلّص ظلّ " الإرادة السنيّة " كلّما تماسك بنيان الشعب والتحمت إرادته في وحدةٍ وطنية منزّهة عن المصلحة الشخصية الخاصة . هذه الأخيرة هي التي تسببت وتتسبب دوماً بإيجاد  "الباب العالي " وديمومة كينونته ، طالماً أنه يؤمّن لها المركز والمال غير الحلال ويتقاسم معها " ماوية " الوطن حتى يجفّ الضرع وييبس الزرع وتشح الموارد المالية . فمع كل " إرادة سنيّة"  كوبليان جديد ( كما في عهد المتصرف واصا باشا )  ، أو " كوبليانيون " ، ليس بالضروري أن تكون مصاهرتهم انتساب رحمٍ بل انتساب  جيوب  وتوزيع مغانم .


فمسؤولية " الباب العالي " مهما كانت جنسيته عبر التاريخ ، لا تنحصر بكونها مسؤولية سياسية فقط ، بل هي أيضاً مسؤولية اقتصادية . فالنمو والازدهار لم يعرفهما لبنان ، إلاّ نسبياً ، في ظل حكم أيّ " باب عالٍ " ، إذ كان في الغالب  ينوء تحت أعباء الضرائب والرسوم والديون وتناقص الثروات ووضع اليد على الخيرات الطبيعية ، لا سيّما بعض المناجم التي لم يعرف لبنان ان يستفيد منها أبداً ، كما وعلى خزينته العامة . وفي كل مرّة ينتهي دورٌ لبابٍ عالٍ ، يكون الوضع المالي في الوطن متدهوراًً والوضع الاقتصادي مشلولاً وقيمة العملة الوطنية متدنية ، وأبناء الوطن بين " سدّان الهجرة ومطرقة الفقر " . وهذا الواقع التاريخي ، ولغاية اليوم ، هو نتيجة حتمية للتفاعل المتبادل والمتين ، بين حماة المصالح المشتركة . فاصطفاء " الباب العالي " للحكّام المحليين ، يشيّد سوراً لحمايتهم ويعزّز حصانتهم  تجاه كلّ ما يقومون به ويرسمونه ويقرّرونه وينفّذونه ، فلا تعود تحكمهم قوانين ولا يلجمهم حياء ولا يهدئ من جموحهم حال فقر مستدام أو قتل وطن . بل يكتفون بتوزيع بعض         " الإعاشات المالية" لقطاعات من دون غيرها ، ويرفعون إثرها يافطات بالدعوة إلى تعزيز الوضع الاجتماعي ومساعدة الناس .

ولا تكمن الأهميّة في رصد المبالغ المالية المخصصة للرعاية الاجتماعية والدعم الاقتصادي وإقفال باب العودة إلى القرى المهجّرة ، أو في حجمها ، بل تتجلّى في معرفة طريقة  إنفاق المخصصات ومعرفة أقنية انسيابها والمبالغ التي سيحصل عليها مستحقوها ، فالخارج من الخزينة كبير والواصل إلى المواطن قليل وطرق الالتواء أكثر بكثير من سبل الاستقامة . إن  تاريخ الرشوة والارتشاء والفساد وثمن المناصب تثـقل ستمئة عام من التاريخ المعاصر على الأقل ، هي في كل زاوية فيه وتحت كل كلمة وبين الحروف والفواصل حتى لتكاد تضاهي الحديث عن  التقدم العلمي والازدهار الثقافي والتطور الفكري والفني والفلسفي والاقتصادي ، أو تغطي عليه . ويقترن ، في سرد تاريخ الفساد ، اسم المسبب به في  الداخل على أنه المسؤول مرفقاً باسم ممثّل " الباب العالي " الذي لم يستطع أن يضبط سوء أعماله ، إذا لم يكن مشاركاً له .

لقد شهدت الفترة الأخيرة ، من هذه السنة ، كلاماً مسؤولاً عن الفساد والفاسدين ، وإيحاءً بوضع حدٍّ للاثنين معاً وكشف الحقائق وهتك أسرار المتآمرين على المالية العامة ، وإعلان كل ما هو محظور نشره بشفافية تامة ، فارتفعت وتيرة  الشجاعةً الكلامية بما لا يعلو عليها شجاعة ولا فروسية . لكن مسار الأمور لا يوحي بالجدية ، فالفساد ، المشار إليه ، إنما حصل في ظل مرحلة ما بعد الطائف ذات اللون الواحد والاتجاه السياسي المرسوم واللاعبين السياسيين أنفسهم ، ولا يمكن للحاكم أن يحاكم نفسه ، لأنه إذا بلغ الحاكم هذه المرتبة الطوباوية فلا يكون حتماً ممن تسبب بالفساد . لذلك سيترك الأمر للتاريخ الذي سيقرن ، عند التقويم ، أسماء الذين تسببوا بالفساد وإهدار المال إلى جانب اسم الحامي أو الحماة والمشاركين .  لكن مَن يخشى من التاريخ وحكمه وأيّة محكمةٍ ، في الوطن الصغير ، قادرة على أن تصدر أحكاماً على جرائم حصلت في حقبٍ تاريخية سبقت  حين أن ملفّات كثيرة ،  في حق من اتهموا بإهدار المال العام وسرقته ، قد طويت وسحبت من التداول وما تزال مواكب إقفالها تتوالى ؟ إن تاريخ الفساد الحديث ، يوجع المواطنين ولا يؤلم الفاسدين ، فهو  يذكر مراحل الإصلاح الإداري وتعثرها بحسب العهود والأشخاص والنتائج ولا أحد يقبض منه غير الكلام والتندر به ، رغم أنه لو أحصيت الأموال التي تم إنفاقها على المشاريع والدراسات وتمّ تقويم ما نفّذ بها ،  لأمكن الجزم بأن ثروات معظم المسؤولين ومن يتعاطى معهم لم تُجبَ بعرق الجبين .

إنّ عهداً من الإنفاق الهائل اقترن بالكثير من الكلام عن الفساد والسرقات وازدياد الدين العام ، وما يزال هذا الواقع مستشرياً ، مع فارق أنه يمثّل حالة هستيرية في اللامبالاة وفي صمّ الآذان . وهذا التمادي غير المسؤول ما كان ليحصل لو كانت المحاسبات السياسية قائمة وممكنة  ولو كانت المحاسبة القضائية قادرة على قطاف الرؤس الكبيرة أو لو كانت العقوبات تتجرّأ على أن  تتجاوز التوقيفات والتشهير وقفل الملفات إلى ... إلى استرداد المال العام ، تماماً كما تفعل المؤسسة الخاصة ، التي إذا ما سلبها موظفٌ لديها ، مالها اتهمته وأحالته إلى القضاء وسجنته واسترجعت مالها أو ما بقي منه على الأقل . فمن يعيد إلى الخزينة العامة أموال الدولة المسروقة أو المهدورة ؟

إن الكلام عن الإنفاق العام والاقتراض لسداده أمرٌ قد يكون جيّداً في المطلق ، لكن الأموال المحققة بفعل الاقتراض والدين وسندات الخزينة ، وإن كانت مبالغ كبيرة ، لم تؤدِّ لغاية الآن إلى النهضة المتوخاة للوطن الصغير ، بل هي بفعل الإهمال واللامبالاة تشبه إلى حدٍّ بعيد حوض سباحة مملؤاً عسلاً لا يجيد أحد السباحة فيه مهما كان ماهراً بل يؤول إلى الاختناق والفطيس .

لقد أظهرت وقائع سلوكيات السياسة المحلية في الوطن الصغير ، أنّه بات خشبة مسرحٍ، كلّ مسؤول أو فريق يصعد إليها ويلعب دوراً خاصاً به من دون أن تكون للدور صلة بمسرحية أو ارتباط بنص لها ، وتكون الصالة خالية من الحضور . فلغاية الآن لا نسمع أو نقرأ نصّاً موحداً لمسرحية كاملة ، ولا يتفاعل الممثلون مع بعضخم ، أما جمهور الحضور فقد يئس من رداءة التمثيل ، وما تزال الستارة ، في رفعها وإسدالها ، رهينة إرادة " الباب العالي " .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق