الأحد، 20 نوفمبر 2011

الإقتصاد في الإنجيل - القسم الأول - النشاطات الإقتصادية (قسم أول )






القسم الأول

النشاطات الاقتصادية
العمل والاستثمارات والمال







الفصل الأول
العمـــل


ملعونةٌ الأرضُ بسببكَ: بعرقِ جبينك تأكلُ خبْزَكَ

لا شكّ في أن العمل، كمفهوم إحداث نشاطٍ بشري أو جهدٍ إنساني، من أجل تأمين استمرارية العيش، يرقى إلى بدايات الحياة الإنسانية. مقولة التوراة، في المفهوم الديني، وكعقابٍ على مخافة آدم إرادةَ الله، تكشف أن الله عاقبَ الإنسان على خطيئته. ففي الجنّة كان يأكلُ مما يشاء ومما توافر في فردوس الخلق، "وأمرَ الربُّ الإلهُ الإنسانَ قائلاً: من جميع أشجارِ الجنّةِ تأكل. (تكوين 2:16) لكنْ بعد إخراجه من الفردوس باتَ عليه أن يأكل خبزه بعرق جبينه. (تكوين 3: 19) والحديثُ عن الخبز، يعني أن إيراد كلام الله جاء متأخرًا جدًّا عن تاريخ خلق البشر (آدم تعني الجنس البشري)، بعد أن عرف الإنسانُ حَرْثَ الأرض واستنباتها القمح وطحنه ومن ثم عجنه وتيبيسه بالحرارة، وغالبًا بالنار. فحُكمُ الله، هنا، يقع على الرجلِ بصفته عاملاً، فلا يعني النصُّ أنه لولا الخطيئة لعملَ الرجلُ من دون عرق الجبين، بل أن الخطيئة تقلبُ أوضاع النظام الذي أراده الله. فالرجلُ لا يعودُ بستانيًا في عدن، بل يصارعُ تربةً أمست معادية. (1) "فملعونةٌ الأرض بسببكَ. بمشقّةٍ تأكلُ منها أيّام حياتكَ، وشوكًا وحسكًا تنبتُ لكَ، وتأكلَ عشب الحقول" (تكوين 3 : 17-18). وفي حين أمر الربُّ الإنسان أن يأكل من ثمار الجنّة، فإن اللعنة الإلهية، لم تقع لتفرض العمل فرضًا ولا بأن أوجبتْ الولادة على المرأة، تبعًا للعقوبةِ ذاتها "فقال للمرأةِ لأُكْثِرَنَّ مشقّات حمْلكِ تكثيرًا. فبالمشقّةِ تلدين البنين"(تكوين 3:16).  يقول معجم اللاهوت الكتابي: " بل كما الولادةُ هي النصرُ الأليمُ للحياة على الموت، هكذا أيضًا تعبُ الإنسان اليومي في العمل يجعل طابعه على ممارسة الإنسان للسلطة التي أولاه الله إيّاها على مخلوقاته: فالسلطة لا تزالُ باقية، لكنّ الأرض لأنها ملعونة، تقاوم، فينبغي إخضاعها ( تكوين 3: 17-18)". (2)

أمّا العمل في الإنجيل فهو "موضع تبجيل وتعظيم، ومحل تجاهلٍ وتعالٍ في الوقتِ ذاته". (3) صحيح أن يسوع أراد من الإنسان أن يهتمّ بالعمل للحياة الآخرة، لكنّه ضرب الأمثلة عن العمل الأرضي تشبيهًا للعمل في ملكوت الله.

أكثر من لفتةٍ وتنبيهٍ أوردها يسوع للدلالة على تجاهل العمل الأرضي. هذا التجاهل ليس تعييبًا  للعمل الأرضي، بل تنبيهًا للإنسان بألا يُشغِل نفسه فقط به. فيسوعُ يرسّخ العمل للحياة الأبدية، "لا تعملوا للطعام الذي يفنى، بل اعملوا للطعام الذي يبقى فيصيرَ حياة أبديّة" (يوحنا 6:27) . هذا لا يعني أن يعمل الإنسانُ للحياة الأبدية فقط، فبقيّةُ الأشياء مثلَ المأْكلِ والمشربِ والكساء، ليست كلّها من دون أهميّة. (4) 

 الأمور الكثيرة واختيار النصيب الأفضل

وعندما ينقلُ متّى عن يسوع قوله: "لا يهمّكم للعيش ما تأكلون ولا للجسدِ ما تلبسون. أليست الحياةُ أعظمَ من اللباس؟ أنظروا إلى طيورِ السماء كيفَ لا تزرعُ ولا تحصُدُ ولا تخزّنُ في الأهراء، وأبوكم السماوي يرزقها. أفلستم أنتم أثمن منها كثيرًأ؟" ( متى 6:25-26). ويضيف يسوع "ولماذا يهمّكم اللباس؟ اعتبروا بزنابق الحقلِ كيف تنمو، فلا تجهد ولا تغزل" (متى 6: 28). فإنّه يلفتُ إلى أهميّة العمل للحياة الأبدية، الحياة الروحية. هذا هو المقصود بقوله إلى مرتا شقيقة مريم التي ساءها ألا تساعدها أختها في أعمال البيت لتهيئة الطعام للضيف السماوي يسوع، فقال لها " إنّكِ في همٍّ وارتباكٍ بأمورٍ كثيرةٍ، مع أن الحاجةِ إلى أمرٍ واحد. فقد اختارت مريم النصيب الأفضل ولن يُنتزع منها" (لوقا 10: 41-42).
لا يحصرُ يسوع الاهتمام بأمرٍ واحدٍ غير العمل، بل يلفتُ إلى أن الاهتمام بأمورٍ كثيرةٍ، يشغلُ عن الأمر الأهم، ألا وهو الاهتمام بالروح وخلاص النفس، إذ ماذا ينفع الإنسانَ أن يربح العالم كلّه ويخسرَ نفسه؟ كما ينقلُ مرقسُ عنه (9/32). 
وعلى رغم التزام الأناجيل صمتًا عجيبًا بالنسبةِ إلى العمل، تبدو الكلمة كأنها لا تعرفُ إلاّ لتشيرَ إلى الأعمال التي ينبغي الاجتهاد فيها. فقلّة الاهتمام هذه من جهة، والأهمية العالّقة على العمل من جهةٍ أخرى، لا يعتبران من المعطيات المتناقضة. (5) فيسوع يدعو إلى العمل، لكن من دون أن يستهلك العملُ المادي اهتمامنا الكلّي.
فعلى الضفّةِ الأخرى المقابلة ، يرسي الإنجيلُ توازنًا، ويُلِحُّ  في الدرجة الأولى، على كون العمل ضروريٌّ في الحياة. فيسوع عمل خلال حياته الأولى قبل التبشير، ومارس مهنة يدوية هي مهنة النجارة، فهو حرفي.  وتحدّث أيضًا عن الأكل والشرب، حيث ضاعف الأرغفة والسمكات ليطعم خمسة آلاف شخص (متى 14: 14 – 21)، وحلّ ضيفاً على موائد كثيرة،  وحوّل الماء إلى خمرٍ في عرس قانا (يوحنا 2: 1-10)، وكسر الخبز قبل صلبه، وبعده.
وعدا عن المفهوم اللاهوتي لهذه العجائب، التي تهدفُ إلى إفهامنا غايةَ رسالة يسوع، فهي ترتكز على معطيات طبيعية وثقافية لم يكن اختيارها من دون مقصد، ما يوضوح تماماً كون إشباع الحاجات الفيزيائية جيّداً في ذاته، لأنه يُبرّر - أقله جزءياً- العجائب. ففي الحالين (عرس قانا وتكسير الخبز والسمك)، من دون أن يتحوّل ذلك
ضرورياً  لحاجة مستعصية، فيزيولوجية: يتعلّق الأمر من جهة بمنح العرس المستوى المطلوب، ومن جهة ثانية إطعام الجمهور الجائع ولكن غير المهدّد بالخواء. وتجب، في هذا المحتوى من الفضيلة الجوهرية للنشاط الاقتصادي، الموضوع تحت إشارة العمل ومنتجاته، مقاربة تفاصيل الرسائل التي توحي بها هذه النصوص. (6)
وتبرز دعوة يسوع، إلى الاستثمار والتجارة وأعمال الصيرفة،  في مَثَل الوزنات،( متى 25:14- 30)، حيث يكون مصيرُ الكسلان "أن يلقى في الظلمة البرّانية"، في حين يُكَافأُ من استثمر وربح أكثرَ من الآخرين. إلاّ أن ما يشيرُ إلى أهميّة العمل في رأي يسوع، هو الاهتمامُ الخاص الذي أولاه بالفئات الاجتماعية التي كانت عالةً على المجتمع، حيثُ يقول الأب بولس الفغالي(7): يعتبر أصحاب المرضِ والعلّة، عالةً على المجتمع، لأن علّتهم تمنعهم من العمل وتدفعُهم إلى العيش من مدّ اليد والاستعطاء. وأن الإنجيل يربط الاستعطاء بالمرض وكأنه أمرٌ معروف. ابن طيما هو شحّاذ أعمى (مرقس 10: 46). وانتظر مقعدُ الباب الجميل أن يتصدّق عليه بطرس ويوحنا (أعمال الرسل 3: 2-3) والاستعطاء يُذلّ الإنسان، في الأمس كما اليوم. لهذا يقول الوكيلُ الخائنُ، وهو المهدّد بخسران وظيفته والباحث عمّا يقوم بأود حياته: »ماذا أعمل؟ أأستعطي؟ إني أستحي» (لوقا 16: 3).
هذا الوضع المادي يجعل حواجز بين المرضى والشعب الذي يعمل ويتفاعل مع الخوف الذي يحيط بالمرض. لا أحد يستطيع أن يسيطر على المرض، لهذا ينسبُ إلى روح الشّر.
    في هذا الإطار الاقتصادي والإيديولوجي، يجد المرضى أنفسهم  مرذولين من المجتمع. فعلى الأبرص أن يتجنّب الاتصّال بأي شخص سليم. ويكمنُ الخطر في الاقتراب من شخص ممسوس، شخص أقام فيه روحٌ شّرير. والصمّ والعميان والمقعدون هم مطبوعون بعلّة تمنعهم من اعتبار نفوسهم متساوين مع سائر اليهود: لا يحقّ لهم أن يشهدوا في المحكمة (كما يقال اليوم: يمنع شخص من الانتخاب)، لا يحق لهم أن يدخلوا الهيكل. ويبرّر اليهود هذا الوضع الإجتماعي والديني بنظرة لاهوتية تعتبر أن المرض هو نتيجة خطيئة اقترفها المريض. وإذا عاد المرض إلى الولادة، تساءل الناسمن أخطأ، هو أم والداه »؟ (يوحنا 9: 2)
        المرضى هم عالة على المجتمع، هم نجسون ومرذلون في شعب الله. ومع ذلك لا يتخلّى عنهم شعب الفقراء. إنهم يسكنون مع المرضى ويحملونهم إلى يسوع. يقول متى (15: 30- 31) «جاءته جموع كبيرة ومعهم عرج وعميان ومقعدون وخرس وغيرهم كثيرون، فطرحوهم عند قدميه فشفاهم. فتعجّب الناس». والمخلَّع الذي دلّوه من سقف البيت، أما حمله أربعة رجال إلى يسوع (مرقس 3/2). وكذا نقول عن الرجل الذي جاء بابنه المصاب بداء الصرع إلى يسوع (مرقس 17/9).

وإذ عزا فغالي تصرّف يسوع مع هؤلاء المرضى الذين شفاهم، إلى ثلاثة مدلولات، فإن المدلولَ الأول يفيد: »"بأن الملكوت قد حلّ في هذا العالم، وبأنه يعني حاجات الإنسان الحياتية: الجوع، الصحة، الحياة، البحث عن الهوية»". هذا ما تشهد له المعجزات، حاجات حياتية، مكانة الإنسان في المجتمع، إعادة خلق الكون.
     كذلك فعل يسوع مع المرذولين مهنيًّا، فلا توجدُ مهنةٌ غير محترمة، أو مرذولة إلا إذا كانت تلحق الأذى بالناس، أو يسيء أصحابُها التصرف مع الناس، مع المجتمع. يتابع فغالي حول هذه الفئة: "هناك وظائف ومهن يحتقرها اليهود ويحتقرون أصحابها.
-
هناك الخطّاطون والحائكون. إنهم يتصّلون بالنساء فيُعتبر سلوكهم غير أخلاقي.
-
هناك بائعو الجلود والدبّاغون، يرذلهم المجتمع لأن عملهم ممقوت ومكروه.
-
هناك الصّرافون وأهل الربى واللاعبون بالقمار. إنهم يعتبرون من السرّاق واللصوص. ويرافقهم الراعي بسبب مهنته المكروهة أولاً. ثم، يظن الناس أنه يرعى خرافه في حقول الآخرين فيعتبرونه هو سارقًا.
  وهناك العشَّارون يجمعون الضرائب من أجل روما ومن أجل وجهاء البلاد  بعضهم أغنياء مثل زكا العشّار (لوقا 19: 1- 10). والعدد الكبير منهم موظفون صغار، أو عاملون في الجمارك مثل لاوي (مرقس 2/ 14)، أو خدّام لدى العشارين الكبار. ولكنهم كلهم مرذولون. يحُرم هؤلاء اليهود بسبب نشاطهم، من حقوقهم المدنية. فلا يستطيعون أن يُدلوا بشهادتهم في المحكمة مثل العبد والمرأة والولد. ورافق هذا الحرمان من الحقوق المدنية حرمٌ ديني يدلّ على أنهم في حالة الخطيئة (لا أخلاق، سرقة، نجاسة)، وأنهم بالتالي ينجسّون الشعب. ويتحوّل هذا الحرم فيما بعد إلى حاجز اجتماعي: فالفريسيون واليهود الأتقياء يمتنعون مثلاً عن إلقاء التحية على عشّار: لقد أُخرج من شعب الله وحُرم من الدخول إلى بيت الله. وهكذا نلاحظ أن الحياة الاجتماعية تمتزج مع الحياة الدينية.
                                    
أما يسوع فيتعدّى هذا الخط السلوكي. يستقبل الخطأة (يعتبرون كذلك بسبب مهنتهم) يُحسن استقبال العشارين ويُرحّب بهم، فيُغضب الفريسيين ومعلمي الشريعة (لوقا 15: 1-2). يدعو لاوي العشار ليكون أحد الإثني عشر، أي ممثلاً لشعب الله الجديد (مرقس13:2 – 14  ) وما أخرجه من محيطه "الخاطىء"، بل بعد أن دعا لاوي، أكل مع العشارين والخطأة (مرقس 2/ 16، لوقا 19/ 5). وهذا ما شكّك الفريسيين الذين جُرحوا في الصميم فقالوا للتلاميذ: "لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين الخطأة" (مرقس 2/ 16)؟ ففي العالم اليهودي، ترمز المشاركة في المائدة إلى المشاركة مع شعب الله تحت نظر الله. وحين يشارك يسوع "المحرومين" في طعامهم، يُصبح نجساً باتصاله بهم، يصبح "صديق جباة الضرائب والخطأة" (متى 19/11). 

يتنافى هذا التضامن مع الخطأة الذي أراده يسوع، والعقلية الدينية في عصره. إنه يرمز إلى انقلاب في القيم يرتبط باجتياح الملكوت للعالم. وهذا الملكوت يُدركه أولئك الذين ليسوا أكيدين من نفوسهم، الذين ليسوا بمتخمين أو واصلين. يدركه المرضى وليسَ الأصحّاء (متى 9/ 12).
ويذهبُ يسوعُ أبعد من ذلك، فهو لا يعتبر تثمير الأموال لدى المصارف أمرًا معيبًا أو مرذولاً، ففي مَثَلِ الوزنات، يوبخّ السيّدُ، العبدَ الكسلانَ قائلاً "كانَ عليكَ أن تضع مالي عند أصحاب المصارف، وكنتُ عندَ عودتي أستردُّ مالي مع الفائدة" (متى 5/27).
وإذا كان الإنجيلُ، لا يذكرُ العمل في شكلٍ مباشر، أو أن العملَ هو " محلَّ تجاهلٍ وتعالٍ"، كما يذكرُ معجم اللاهوت الكتابي (صفحة 565)، فإنّ يسوع نفسه هو النجّار العامل، به يتعظّم العمل (مرقس: 6/3)، وابنُ النجّار العامل (متى: 13/55). ولذا فإن يسوع يطلبُ إلى تلاميذه أن يسألوا "ربَّ الحصاد ليرسلَ فَعَلَةً إلى حصاده" (متى: 9/38)، حتى ولو كان العمل في الحقل الروحي.
ويتكرّر فعل العمل في حالٍ واقعية أو في أمثلةٍ كثيرة. فيسوع اختار تلاميذه من بين الفعلة وأصحاب الوظائف المرذولة في المجتمع اليهودي، فقد اختار تلاميذه الأولين من بين صيادي الأسماك: بطرس ويوحنا أخوه، ويعقوب ويوحنا أخوه ابني زبدي، (متى 4: 16 – 21)، (مرقس 1: 16 – 19)، (لوقا 4: 10 – 11). كما اختار يسوع رجلاً جالساً في بيت الجباية يدعى متى (8/9)، أو عشّارًا جالسًا في بيت الجباية اسمه لاوي بن حلفى ( لوقا 5/18- مرقس 5/14)، ومن الطبيعي أن يكون لسائر التلاميذ مهنٌ سابقة بخاصةٍ أن العاطل من العمل كان ممقوتًا في المجتمع. حتى أن  عمل الخير يجوز يوم السبت، يوم الراحة لله، أو الأعمال الاضطرارية. وأفتى الربّانيون، زمنَ يسوع، بجواز مخالفة شريعة السبت لإغاثة إنسان في خطر الموت، ولكنّهم لم يكونوا يتساهلون في أيّ عملٍ طبّي وبالأحرى في إنقاذ الماشية (8). لكنّ يسوع أجاز الشفاء يوم السبت، ( متى 12: 9 – 14، يوحنا 5: 16 – 17، لوقا 6: 6 – 11 ومرقس 3: 1-6).
هوامش

(1)                        الكتاب المقدّس – دار المشرق – توزيع المكتبة الشرقية – بيروت. الطبعة السادسة سنة 2000. صفحة 73 – 74 الحاشية.
(2)                        معجم اللاهوت الكتابي – دار المشرق – توزيع المكتبة الشرقية – بيروت. الطبعة الخامسة ستة 2004. صفحة 564.
(3)                        معجم اللاهوت الكتابي صفحة 565.
(4)                        معجم اللاهوت الكتابي – صفحة 565 – رابعًا.
(5)                        (1) الإنجيل، المسيحي، المال   بيار دو لوزون
(6)                         Pierre de Lauzun  - منشورات cerf   باريس 2003 – ص 18 -19
(7)                        الكتاب المقدّس – تعرّف إلى العهد الجديد -  القسم الأول: في أصول التقليد الإنجيلي – الفصل الخامس : يسوع والمرذولون – موقع إلكتروني paulfeghali.org
(8)                      الكتاب المقدّس- العهد الجديد – دار المشرق إنجيل متى صفحة 69 الحاشية رقم 7.






إتقان العمــل

منْ أُعطي الكثير يُطلبُ منه الكثير
لا يتوقّف الجهد البشري، عند حدود التنفيذ الظاهري، بل يتعدّاه في نظرِ يسوع إلى الالتزام والإتقان والأمانة في العمل. ينقلُ لوقا عن يسوع، (12: 42-48)، طوباه، للوكيل الأمين العاقل الَّذي يُقيمُه سَيِّدُه على خَدَمِه لِيُعطِيَهم وَجبَتَهُم مِنَ الطَّعامِ في وَقْتِها، عندما يأتي سيّدُ ذلك الوكيل فيجَدَه مُنصَرِفاً إِلى عَمَلِه هذا. هذا الوكيل، «تحقُّ له الترقية، لذا فالسيّد الذي يطمئنُّ إلى سهر وكيله والتزامه التام بواجباته  يُقيمُه على جَميعِ أَموالِه»، بخلاف الوكيل الذي «يَضرِبُ الخَدَمَ والخادِمات، ويأَكُلُ ويَشرَبُ ويَسكَر"، فيَأتي سَيِّدُه فيَفصِلُه وَيَجزيه جَزاءَ الكافِرين ».
وفي لوقا ثوابٌ وعقاب، فالذي يُتقن عمله تتمُّ ترقيته، والذي  «عَلِمَ مَشيئَةَ سَيِّدِه وما أَعَدَّ شَيئاً، ولا عَمِلَ بِمَشيَئةِ سَيِّدِه، يُضرَبُ ضَرباً كَثيراً. وأَمَّا الَّذي لم يَعلَمْها، وعَمِلَ ما يَستَوجِبُ بِه الضَّرْب، فيُضرَبُ ضَرْباً قليلاً».
ويحمّل يسوع المسؤولية لمن أُعْطي الكثير، وبحسب مفهوم اليوم، من تبوّأَ المناصب العليا أو الكادرات العليا في المؤسسات، إذ يضيفُ لوقا « مَن أُعطِيَ كثيراً يُطلَبُ مِنهُ الكَثير، ومَن أُودِعَ كثيراَ يُطالَبُ بِأَكثَرَ مِنه ». فلا يجوز أن يتحمّل مغبّة المسؤولية أولئك الصغار الذين لا يملكون حقَّ التقرير أو التنفيذ أو هم غيرُ قادرين على تحمّل تلك المسؤولية، سواء لعدم خبرةٍ أو أهليةٍ وسواء لعدم طاقةٍ وقدرةٍ.












المسيحيّون والعمل

الأعمال غير المقبولة تتناقض وتعاليم يسوع
نشأت المسيحية الأولى وسط مجتمعاتٍ مقيّدة بتقاليد وأعراف باتت متحجّرة ومنغلقة، تتناقض ومفاهيم تعاليم يسوع. فإذا كانت المجتمعات المعاصرة رذلت عددًا من المهن والحرف والوظائف لأسبابٍ مختلفة، فإنّ يسوع لم يرذل تلك الوظائف وأصحابها، بل جالسهم وأكلَ معهم واتخذ من بعضهم تلاميذَ ورسلاً، لكنّه حثّهم على اكتساب الرزق الحلال. وفي المقابل وجد المسيحيون أنفسهم أمام وظائف أخرى وأعمال تتنافى وما تعلمّوه من تعاليم سماويّة. ففي كتابه «أصول التراث المسيحي في شمال أفريقيا – دراسة تاريخية في العصرين الأول والثاني»  كتب روبين دانيال عن عصر ترتوليانوس، أواخر القرن الثاني، ( موقع كلمة الحياة الالكتروني)، ما يأتي: 
« كان المسيحيون يشجعون بعضهم بعضاً، ليعملوا بجد ويبذلوا عرق الجبين في كسب أرزاقهم، وهكذا يتمكنون من مساعدة الآخرين ممن هم أقل حظاً منهم، بخاصةٍ أولئك الذين لا يستطيعون الاستمرار في أعمالهم، بسبب المرض والعجز.(أعمل 20: 34-35). وتعتبر المسيحيةُ العملَ واجباً طبيعياً على كل أتباعها. كان الرسول بولس يكسب قوته من طريق عمله اليدوي، وفي صناعة الخيام. ويظهر أن الأعمال اليدوية لم تكن تُعتبرُ من الأعمال المخزية.(أعمال 18/3) وكتب بولس: "إذاً انتم تعرفون كيف يجب أن يُتَمَثّلَ بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم ولا أكلنا خبزاً مجَّاناً من أحد بل كنا نشتغلُ بتعب ونكدّ ليلاً ونهاراً لكي لا نُثقِلَ على أحد منكم"(تسالونيكي2 / 3:7-8).
في الواقع، بدأ كثيرون ممن اعتنقوا المسيحية، ولأول مرة في حياتهم، يزاولون أعمالاً شريفة وكما يقول الكتاب المقدس: "لا يسرق السارق في ما بعد بل بالحري يتعبُ، عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يُعطيَ من له احتياج"(أفسس 4/ 28). نظرت الكنيسة المسيحية بازدراء واستنكار إلى الأصحاء القادرين على أن يعملوا، ولكنهم كسالى مهملون. فكتب بولس الرسول بهذا الخصوص قائلاً: "فإننا أيضاً حين كنا عندكم أوصيناكم بهذا، أنه إن كان أحدٌ لا يريد أن يشتغل فلا يأكل"(تسالونيكي الثانية/ 3/: 10). فالمسيحيون هم من يكونون "مستعدين لكل عمل صالح"(تيطس 3/ 1)، وبالأخص إذا كانتْ تتوجبُ عليهم إعالة من يعتمدون على ما يجنونه من معاش. "وإن كان أحدٌ لا يعتني بخاصته ولا سيما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو شر من غير المؤمن"(تيموتاوس1/ 5: 8). لقد كانت هناك فرص كثيرة للذين يريدون أن يعملوا في المدن والقرى والأرياف، ولكل من لم تمنعه كبرياؤه من تلويث يديه بأية حرفة مهما كانت وضيعة. ولم تكن الأعمال الشاقة والأوضاع الاجتماعية المتدنية تعتبر وصمة عار ففي زمن الاضطهاد، أُرسل كثيرون إلى المناجم، وكان المؤمنون الذين يسخّرون للعمل في هذه المناجم يفتخرون بعملهم هناك، وهم يمجِّدون الله دائماً، ويسبِّحونه على رغم أنهم في وضع لا يحسدون عليه. وكانوا يؤمنون بأن الله هو الذي أرسلهم إلى هذا المكان الوضيع ليكونوا نوراً يضيء في الظلمة كرسل المسيح، وليس كسجناء للإنسان.
ومع هذا، كانت توجدُ أعمالٌ لا يقبل بها المسيحيون. فهم لا يقبلون مثلاً أن يعملوا كمجالدين،  يقاتلون حتى الموت لإمتاع الجماهير في الإمبراطورية الرومانية، وبخاصة في ذلك العصر الذي تميّز بالترويع والترهيب، سواء أكان هذا الترويع والترهيب ضد الإنسان نفسه أو ضد الحيوان على حد سواء. ولم يكن المؤمن يقبل أيضاً أن يشارك أو يتورط في أعمال الدراما على المسارح الوثنية، بسبب ما يعرض خلالها من مشاهد بذيئة ولا أخلاقية - أساطير وخرافات الآلهة - تلك الأساطير التي كانت تُمثل بقناع ديني على مرأى الجماهير الفاسقة الفاسدة. ولا يشرك المسيحي نفسه في أي شكل من أشكال الوثنية أو علم التنجيم، أو أية مهنة ترتبط بعبادة الأوثان، كصناعة المصابيح وأكاليل الزهور وغيرها من الزخارف والحلي التي تخص المعابد. ولم يكن ممكناً للمسيحي أن يقبل العمل كمعلم في مدرسة لأنّ عليه أن يعطي دروساً تتنافى ومبادئه المسيحية. فجدول الضرب لم يكن في ظاهره مؤذياً، غير أن حروف الهجاء كان يتم استظهارها وحفظها غيباً من طريق أنشودة ترتل فيها أسماء الآلهة الوثنية.(*) كذلك كان المسيحي يرفض أن يكون قاضياً حيث قد يطلب منه أن يحكم بسفك دم. ولم يكن المسيحي يرغب في أن يكون محامياً بحيث قد يُطلب منه أن يدافع عن رجل مذنب والترافع لصالحه، أو قد يُطلب منه اتهام رجل بريء يتم تجريمه. ولا يستطيع المسيحي أن يكون خطيباً عاماً خصوصاً إذا كانت خطبته هذه تشتمل على التملق والمداهنة والإطراء والأكاذيب، وذلك لتمجيد حاكم مجرد من المبادئ الخلقية، أو للثناء على أحد المتبرعين الوثنيين. وقد تخلّى كثيرون عن أعمال كانوا قد باشروا بها، لأنهم لم يستطيعوا أن يوفقوا في ما بينها وبين ضمائرهم أو مبادئهم المسيحية، واكتفى هؤلاء بأشغال أكثر تواضعاً. فالغنى، والوسيلة التي تؤمن الحصول عليه، ليسا نهاية المطاف. وتخبرُ مواعظُ كنسية حُفِظت خلال القرون الأربعة الأولى للميلاد، أن الكنيسة كانت تحثُّ المؤمن ذا الإمكانات المتواضعة على أن يقتنع بدخله المحدود. أما ذوو الدخل الكبير، فعليهم أن يكونوا كرماء يدفعون بسخاء إلى عدد وافر من المحتاجين. وقد طُلب من التجار أن يتأكدوا من تثبيت أسعار عادلة، وأن لا يطلبوا أكثر من هذه الأسعار العادلة من المشترين، وكذلك ألاّ يقبلوا بأسعار أدنى منها.
وخلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، اعتقد المسيحيون أن خدمة الجيش تتناقض مع الإيمان المسيحي. وبالطبع فإن هذه الخدمة تورطهم في استعمال العنف والاضطرار إلى سفك الدماء، ما لا يتوافق مع تعاليم المسيح (مثلاً متى 5: 39- 40).  فهل في الإمكان أن نتصور يسوع يقتل إنساناً إذا صدرت إليه الأوامر بذلك من قائد فرقة عسكرية؟ ولا حتى، يمكن لأتباعه أن ينفِّذوا أمراً كهذا. قال ترتوليانوس: "إن تجريد الرب لبطرس من سلاحه، جرد الجنود من أحزمة أسلحتهم منذ ذلك التاريخ فصاعداً"(بالإشارة إلى متّى 26: 52). وأعطى ترتوليانوس أسباباً أخرى لعدم التحاق المسيحيين بالجيش. فأولاً: إن مثل هذه الخدمة تضع المسيحي تحت إمرة سيد غير سيده المسيح، وثانياً: تمنعه من الوفاء بواجباته مع عائلته. وأكثر من ذلك، فإن أصحاب الرتب العليا في الجيش ملزمون في أن يشاركوا في الدعاءات والابتهالات الدينية  المقدَّمة للآلهة، وذلك مع كتائبهم. كذلك لم تطلب الكنيسة من الجنود الملتحقين بالجيش أن يتمردوا أو أن يتسرعوا في معارضة ذوي السلطة. ولم تفرض الكنيسة على الجندي الذي اعتنق المسيحية أن يغادر الجيش في سرعة، بل كانت تشجعه على البحث عن عمل آخر حالما يتحرر من قيود عمله السابق. وهذا لم يكن يسبب أية صعوبة، إذ إن الدولة يمكنها أن تملأ مركزه ورتبته شكل آخر».
* اعتبر ترتليانوس من الضروري على الأولاد المسيحيين في المجتمع الوثني أن يلتحقوا بالمدارس الوثنية، وإلا سيشبّون أميين. وسيساعدهم ما حصلوا عليه من تعليم مسيحي في البيت على تقويم ما يدرسونه والتمييز بين الحق والباطل
ملاحظة: الفصلُ منقولٌ بكامله نظرًا لأهميته حول الأعمال التي كانَ ينفّذها المسيحيون خلال القرون الأولى لانتشار الدين الجديد.












الأجر على العمل

الحاصدُ يأخذُ أجرته، ولكأس الماءِ الباردِ أجرٌ أيْضًا

عندما أرسل يسوع تلاميذه ليعلنوا عن اقتراب "ملكوت السموات" قال لهم: "لا تقتنوا نقودًا من ذهبٍ ولا من فضّةٍ ولا من نحاسٍ في زنانيركم، ولا مزودًا للطريق ولا قميصين ولا حذاءَ ولا عصًا، لأن العاملَ يستحقَّ طعامه" (متى 10: 9-10 ، لوقا 9/ 3، و10/ 4، مرقس 6: 10 – 11)، ما كرّس مبدأ الأجر، انطلاقًا من الأعمال التبشيرية وانتهاءً بأعمال النشاطات الاقتصادية. فعلى صعيد الأعمال في المجال الديني، كان للربّانيين حق العيش من عطايا تلاميذهم في أوضاعٍ معيّنة، فلوقا يذكر أن العامل يستحق أجرته، (لوقا 10: 7)، ويكرّر بولس هذا القول في رسالته الأولى إلى طيموتاوس (5: 18) ويقول في رسالته الثانية له : فمِن حَقِّ الحارِثِ الَّذي يَتعَبُ أَن يَكونَ أَوَّلَ مَن يَنال نَصيبَه مِنَ الغَلَّة. تَفَهَّمْ ما أَقول، والرَّبُّ يَجعَلُكَ تُدرِكُ ذلِكَ كُلَّه (رسالة الأحد الأول بعد عيد ارتفاع الصليب). إلا أن بولس الذي أكّد في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، أنّ "الرب قضى للّذين يُعلنون البشارة بأن يعيشوا من البشارة"، ( 9: 14)، رفضَ أن يعتاشَ هو من البشارة،" فإذا بشّرتُ، فليس في ذلك مفخرةٌ، لأنها فريضةٌ ... فلو كنتُ أفعلُ ذلك طوعًا لكان لي حقٌّ في الأجرة" ( قورنتس الأولى 9: 16- 17). وفي النص إلى قورنتس1 .(9: 13 – 18) "أَما تَعلَمونَ أَنَّ خَدَمَ الهَيكَلِ يأكُلون مِمَّا هو لِلهَيكَل، والَّذينَ يَخدِمونَ المَذبَح يُقاسِمونَ المَذبَح؟ وهكذا قَضى الرَّبُّ لِلَّذينَ يُعلِنونَ البِشارةَ أن يَعيشوا مِنَ البِشارة. أَمَّا أَنا فلَم أَستَعمِلْ أَيَّ حَقٍّ مِن هذِه الحُقوق، ولَم أَكتُبْ هذا لأَُعامَلَ هذه المُعامَلَة. فالمَوتُ أَفضَلُ لي مِن أَن مَفخَرَتي هذه لن يَنتَزِعَها أَحد. فإِذا بَشَّرتُ، فلَيسَ في ذلك لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضةٌ لا بُدَّ لي مِنها، والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر! فلَو كُنتُ أفعَلُ ذلك طَوعًا، لَكانَ لي حَقٌّ في الأُجْرَة. ولَكِن إِذا كُنتُ أَفعَلُه مُلزَمًا، فذلك بِحُكمِ وكالَةٍ عُهِدَت إِلَيَّ. فما هي أُجْرَتي؟ أُجْرَتي، إِذا بَشَّرتُ، أَن أَعرِضَ البِشارَةَ مَجَّانًا، مِن دونِ أَن أَستَفيدَ مِمَّا يُحَقُّ لي مِنَ البِشارة". (1)

وانطلاقًا من ترسيخ مبدأ استحقاق الأجر للعامل، لفتَ يسوعُ في غير موضع من الأمثال التي ساقها إلى استحقاق الأجور.  هذا الاستحقاق يكون للأعمال المادية وللأعمال الروحية، لأعمال الخير كما لأعمال الشر. "من سقاكم كأس ماءٍ فإنّ أجره لا يضيع" ينقل عنه مرقس الإنجيلي. (9/41) وإذا كان متّى يورد عن يسوع قوله: "فسوف يأتي ابنُ الإنسان ومعه ملائكتهُ، فيجازي يومئذٍ كلَّ امرئٍ على قدْرِ أعماله"، فإن متّى يستشهدُ هنا بالآية 13 من المزمور 62 للتعبير عن فكرة المكافأة الشخصية. وهذه الفكرة عميقة الجذور في العهد القديم، لكنّها تتخذ في إنجيل متّى ميزتين جديدتين: يسوع ابن الإنسان، هو الذي يدين كلّ واحدٍ في اليوم الأخير. ثمّ إن متّى يشدّد دائمًا على أهمّية الأعمال الصالحة التي تُصنع تحت نظر الذي يجازيك. ( 5/16، 6/4 و6 و18) (2) وينقل يوحنّا عن يسوع قوله "هوذا الحاصدُ يأخذُ أجرته". ( 4/36) (3)

(1) تتردد مفردة أجر ومجازاة في رسائل بولس مرارًا، سواء في إشارةٍ إلى الأعمال الأرضية، أو المجازاة للعاملين في حقل الله. الرسائل والآيات : ( إلى  الرومانيين 2/ 6-8 و12/19 – الأولى إلى قورنتس 3/ 8 و14 – الثانية إلى قورنتس 5/ 10 – إلى غلاطية 6/ 7- 9 – الثانية إلى تسالونيكي 1/ 6-7  - عدا ما ورد في النص.
(2)الكتاب المقدّس – دار المشرق –إنجيل متّى صفحة 84 الحاشية رقم 18.
(3) وفي رؤيا يوحنا 22/12 : أجزي كلّ واحدٍ على قدْرِ عمله.





الفصل الثاني
الاستثمــار

بيعُ جميع الأملاك لشراء الكنزِ أو اللؤلؤة

تحدّث يسوع بالأمثال في أمورٍ كثيرة (متى 13/ 1)، ليفسّرَ للتلاميذ أولاً وللسامعين ثانياً حقيقة ملكوت الله. وتجاه رسالته السامية الهادفة إلى خلاص النفوس البشرية من الهلاك، ودعوته إلى التقشّف والزهد في متاع الدنيا، وازنَ يسوع في أمثاله بين "ملكوت الله" والحياة الدنيا، ليس خفضاً من قيمة "الملكوت"، بل وفي اجتهادٍ ما، تقويماً للحياة وأهميتها بالنسبة إلى "الملكوت السماوي"، عندما يعيش المؤمون في حياة النعمة والبرارة.
فملكوت السماء يشبه الحياة الاقتصادية اليومية، من يعرف أن يستثمرها يُحسن أن يعيشَ، فكيف إذا كان يعرفُ كيف يستثمر حياته في الشأن الروحي أو في خدمة "القريب" وبمحبة؟ (بولس)
فيسوع يجعل من "ملكوت السماء" المجال الأرحب للاستثمار الروحي، ولكن مقارنةً مع الاستثمار الاقتصادي في الحياة على الأرض. لذا يتناول أوجُهاً متعدّدة للاستثمار الاقتصادي، سواء لناحية درس الجدوى الاقتصادية وتحقيق الأرباح، أو لناحية مراقبة مسيرة الاستثمار، فإذا كان خاسراً أوجب وضع حدٍّ للخسارة، وسواء لناحية البحث عن الاستثمار الأفضل، أو الاهتمام في مواقع الاستثمار.

ولذا يعلن يسوع أهميّة "ملكوت السماء"، فيشبهّه بالكنز واللؤلؤة. لكن التشبيه دعوةٌ أيضاً إلى حسن الاستثمار. يقولُ متى (13: 44-45): "مَثَلُ ملكوت السَّموات كمثلِ كنزٍ دُفنَ في حقلٍ، وجده رجلٌ فأعاد دْفنهُ، ثمَّ مضى لشدَّةِ فرحه فباعَ جميعَ ما يملك واشترى ذلكَ الحقل.
ومثَلُ ملكوت السموات كمثلِ تاجرٍ يطلبُ اللؤلؤَ الكريمَ، فوجدَ لؤلؤةً ثمينةً فمضى وباع جميعَ ما يملك واشتراها".

يعرضُ متّى في سرعةٍ الحدث، ليتوقّف عند أهميّة الكنز واللؤلؤة، فهما ثمينان، ويساويان اقتصادياً جميع ما يملك كلٌ منهما. لكن في التشبيهين فروقاتٌ تبرّر مسعى الفلاح الذي اكتشف الكنز، والتاجر الذي وجد اللؤلؤة. فما يملكه أقل كثيراً من قيمة الكنز. لذا عمد إلى إخفاء الكنز في حرصٍ، خشيةَ أن يكتشفه أحد، بخاصّةٍ صاحب الحقل، لأنه يأخذ الكنز لنفسه، أو يزيد ثمن الحقل أكثر من قدرة الفلاح على شرائه. بينما وجدَ التاجرُ لؤلؤةً ثمينةً معروضةً وليست مخفية فباع جميع ما يملك ليشتريها.
وفي التوازن بين ما هو مخفي وما هو معلوم، يبقى الاستثمار الظاهرة الأكيدة، فمن الذي يبيع جميع ما يملك ليشتري كنزاً أو لؤلؤةً إذا كان لن يربح أكثر من الثمن الذي دفعه؟ هكذا هو ملكوت الله، فمن يبع جميعَ ما يملك ويوزع ريعه على الفقراء ويتبع يسوع، يَنَلْ الخلاص، أي بمعنى آخر "يربح ملكوت السموات".

احتسابُ النفقة لتنفيذ المشروع

إذًا في الحياة العادية على الأرض، يسعى الإنسانُ ليستثمر بهدف الربح. وللاستثمار دراسة جدوى اقتصادية، وآمادٌ لبدء حصاد المحصول أو جني الثمار أو الأرباح المادية.
وتمهيداً للتأكد من نجاح المشروع، ينقلُ لوقا عن يسوع تساؤله "فمن منكم، إذا أراد أن يبنيَ بُرْجاً، لا يجلسُ قبلَ ذلكَ ويحسبُ النفقةَ، ليرى هل في إمكانه أنْ يُتمَّه، مخافةَ أن يضعَ الأساس ولا يقدر على الإتمامِ، فيأخذُ جميعُ الناظرينَ يسْخرونَ منه ويقولون: هذا الرجلُ شرَعَ في بناء بيته ولمْ يقْدِر على إتمامه. أمْ أيُّ ملكٍ يسيرُ إلى محاربة ملكٍ آخر، ولا يجْلِس قبل ذلك فيفكِّرُ ليرى هل يستطيع أن يلقى بعشرةَ آلافٍ منْ يزحف إليه بعشرين ألفاً"؟.. (لوقا 14: 28-32). وإذا كان لوقا يهدفُ من المثلين اللذين ينفرد بهما، الزهد بالأموال ليكونَ تلميذاً للمسيح (الآية 33)، فإن المثلين يتضمنان في الحياة العملية دعوةً إلى درس أي مشروعٍ، ومعرفة جدواه قبل الخوض فيه أو البدء في استثماره.

ولا يتوقف درس الموضوع عند الجدوى الاقتصادية، بل يشمل معرفة متانة المشروع وقوته وقدرته على الاستمرار، كما ينقل متى (7: 15-20) ولوقا 6: 48-49)، عندما تحدّث يسوع عمّن يسمع كلامه ويعمل به، فهو "يشبه رجلاً بنى بيتًا، فحفرَ وعمّقَ الحَفْرَ، ثمَّ وضعَ الأساسَ على الصخْر. فلمّا فاضت المياه اندفع النهرُ على ذلك البيت، فلمْ يقوَ على زعزته لأنه بُنيَ بناءً مُحكماً". أما الذي يسمع ولا يعمل، فإنه "يُشبه رجلاً بنى بيتًا على التراب بغير أساس، فاندفع النهرُ عليه فانهارَ لوقته، وكان خرابُ ذلك البيت جسيمًا".

أيُّها الخادمُ الشرّيرُ الكسلان: كانَ عليكَ أنْ تضعَ مالي عندَ أصحاب المصارف، فأستردّه مع الفائدة

وما يعرضه متى ولوقا مما يشبه "ملكوت السماء" أو ما يمثّلُ الطريقَ إلى الخلاص، هو اقتصادٌ وحساباتٌ اقتصادية ومالية تخدم الحياة على الأرض، ومثلها الاستثمارات الروحية التي تؤدي إلى الخلاص الأبدي، لذا تاجرَ أصحابُ الوزنات الخمس والثلاث ومثلهما أصحابُ الأَمْناء فضاعفوا رؤوس أموالهم، ومن لم يستثمر ويتاجر فيربح أو يخسر "أُخِذَ منه ما له ليُعطى إلى من يملك الكثير".
وفي هذا المدى الروحي، الذي ينتظره الله من عباده، نجده يُمهل المؤمنين ليعودَ ويحاسبهم على ما زرعوه وما تاجروا به وما كسبوه من تثميرٍ للحياة الروحية. وإذا تخاذلَ أحدٌ منهم يمنحه وقتًا أطول وفرصةً جديدة، ليبحثَ تاليًا عمّا خسره أو أضاعه فيُعيدَ إلى استثماره حجمه الطبيعي ومن ثمّ يعاودُ النهوض من جديد. وها متى ولوقا يعرضان مثل الخروف الضائع (متى 18: 12-14، لو 15: 3-7) ومثل الدرهم الضائع ( لو 15: 8- 10)، قال يسوع: " أيُّ امرئٍ منكم (الفريسيون والكتبة) إذا كان له مئةُ خروفٍ فأضاعَ واحداً، لا يترك التسعة والتسعين في البريّة، ويسعى إلى الضالِ حتى يجده؟ فإذا وجده حملهُ على كتفه فرحاً (...) أم أيّةُ امرأةٍ إذا كان عندها عشرةُ دراهم فأضاعت درهماً واحداً، لا توقدُ سراجاً وتكنسُ البيت وتجدُّ في البحث عنه حتى تجده"؟ فبالنسبة إلى يسوع، يُشبِهُ وجود الخروف الضال والدرهم الضائع عودةَ خاطئٍ إلى التوبة. أمّا في مفهوم المثل فيمثّل الخروف واحداً في المئة من الاستثمار والدرهم عشرة في المئة من الثروة. وإذا كان الدرهم يوازي خسارةً كبيرة لامرأةٍ لا تملكُ سوى عشرة دراهم، فإن فقدانَ خروفٍ وإن كانتْ نسبته المئوية إلى المجموع متدنية نسبياً، إلا أنها كبيرةٌ في الثمن. فالاهتمامُ بالاستثمار وبعائد الأعمال أمران مهمّان، حتى إذا لم يُجدِ المشروعُ ويثمر الكرمُ أو التينةُ سمحَ يسوع بالاهتمام بها لسنةٍ إضافية قبل أن تُقطع (لوقا 13: 3-9). وضرب يسوع هذا المثل: "كانَ لرجلٍ تينةٌ مغروسةٌ في كرمه، فجاء يطلبُ ثمراً عليها فلم يجد. فقال للكرّام:"إني آتٍ منذ ثلاث سنوات إلى التينة هذه أطلبُ ثمراً عليها فلا أجد، فاقطعها! لماذا تُعطّلْ الأرضَ؟" فأجابه: "سيّدي، دعها هذه السنة أيضاً، حتى أقلبَ الأرضَ من حولها وألقي سماداً. فلربما تُثمرُ في العام المقبل، وإلا فاقطعها". ففي المثل الذي هو دعوةٌ ماسّة وواضحة إلى التوبة، نجدُ أمثولةً في الاستثمار الذي لا يُجدي فيلغيه صاحبه. ومع تقدّم العولمة وبناء الاستثمارات الكبرى والضخمة، يلجأ أصحابُها إلى تقويم نتائج الفروع. فإذا كانت المؤسسات تشبه الكرم، وفيها فروعٌ متنوّعة بعضها لا يُنتج كما يُنتظر منه، يتمُّ إقفاله أو تُعادُ هيكلته لتجربةٍ جديدة ثم يُستغنى عنه. أو يمكن أن ينسحبَ المثلُ على العاملين في مؤسسة، فإذا كانَ بعضهم لا يعمل قد يؤنبهم رب العمل وينتظر منهم أن يُنتجوا ويمهلهم فرصةً جديدة.
ويُستفادُ من المثل الاهتمام بالزراعة، فالتينةُ التي لم تُثمر في ثلاث سنوات تأخّرت عن الإنتاج، ثمّ أن العناية بها تتطلّبُ "قلب الأرض من حولها وإلقاء السماد"، فـ"لربّما تُثمر".
فالكرمُ في المثل يُشبه المؤسسة، والرجلُ صاحبها، والكرّامُ مديرها، والتينةُ فرعٌ منها (كن لرجلٍ تينةٌ مغروسةٌ في كرمه)، وخلوها من الثمار يعني عدمُ جدواها، وقلبُ الأرض وتسميدها يعنيان إعادة تأهيلها، بهدف أن تُثمر. لكن الاستثمار يشبه أيضاً الزرع او الأشجار فقد تثمر أي يربح أو لا.
أمّا إذا أخْصَبَ الاستثمارُ فهو يُشبه حبّة الخردل  (متى 13: 31-32، ولوقا 13: 18-19، ومرقس 4: 30-32)، والخميرة (متى 13:33، ولوقا 13: 20-21).والمثلان يشبهان روحياً ملكوت السموات، واقتصادياً الاستثمار الناجح.
قال يسوع: " مثلُ ملكوتِ السموات كمثلِ حبّةِ خردل، أخذها رجلٌ فزرعها في حقله، هي أصغرُ البزور كلّها، فإذا نَمَتْ كانت أكبر البقول، بل صارتْ شجرةً حتى إنَّ طيور السماء تأتي فتعشِّشُ في أغصانها" (...) " أو كمَثْلِ خميرةٍ أخذتها امرأةٌ ، فجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرَتْ كلُّها".

 فالحديثُ عن مجدِ يسوع الذي عاش في تواضعٍ، أو عن الفقراء أو المرضى الذين يعيشون في الله، ثمّ أظهر مجده أو ربح المؤمنون ملكوت الله، لا يمنع من المقاربة مع الاستثمار الاقتصادي الناجح الذي يبدأ صغيراً ثمَّ لا يلبث أن ينمو، أو المساهمة في مشاريع استثمار تنمو وتصير واحدة، كمثلِ إعادة التمويل، أو دمج مؤسسات وغيرها.




الفصل الثالث
المـــال

لم يعب يسوع العمل من أجل كسب المال بهدف تأمين العيش، هو وتلاميذه قبِلوا مساعدات مالية من المؤمنين الواهبين ومن نساءٍ كثيرات "كنّ يساعدنهم بأموالهن" ( لو 8: 5)، وكان لديه أمينُ مالٍ يرعى شؤون التلاميذ الحياتية، هو يهوّذا الاسخريوطي "الذي كان الصندوق عنده" (يوحنا 12 : 6).
غير أن يسوع حاول أن يميّز بين كسب المال، وبين الغِنى، حيثُ يكرّس المرءُ حياته في جمع الثروات وخزن المحاصيل وادخار الأموال، ويبتعد عن الاهتمام بالروح ومساعدة الفقراء. فتكريسُ الحياة في جمع المال والثروات يتحوّل إلى عبادةٍ للمال الذي هو أمان الحياة الأرضية.
ولم تضع التوراة العبرية الغنى والثروات في مواجهة مع الله، على العكس، ثمّنت الثروات وأعطت للغنى معنىً لاهوتيًا، إشارةً على أنه مباركٌ من الله.(1) لكن إذا كانت الثروات تنعم بتقديرٍ
 (1) Le monde de LA BIBLE  العدد 172، تموز – آب 2006، دانيال مارغيرات "الله والمال" صفحة 17. 

إيجابيٍّ عريض، فإن عدم المساواة في توزيعها يضع المؤمن في العهد القديم في مواجهة الصعاب. فتوزيع المال لم يكن عادلاً في إسرائيل، حيث تمركز الغنى وكَثُرَ الفقراء، لذا وضع سفرُ تثنية الاشتراع نصوصًا تشريعية اجتماعية هدفت إلى أن تلطّف من التباين الاجتماعي وتخفّف من وطأة بؤس الفقراء. "إذا حصدت حصادك في حقلكَ، ونسيت حزمةً في الحقل، فلا ترجع لتأخذها، وإذا خبطت زيتونكَ فلا تراجع ما بقي في الأغصان، وإذا قطفت كرمك فلا تراجع ما بقي منه، إنّه للنزيل واليتيم والأرملة يكون (تثنية اشتراع 24: 19- 21). ويلتفتُ تثنية الاشتراع إلى التخفيف عن الفقراء في مسألتي الإقراض والأجر، " إذا كان (المقترضُ) رجلاً فقيرًا فلا تنم ورهنه عندك، ( كان الرهنُ عبارة عن الرداء) بل عند غياب الشمس تردّه لكي ينام في ردائه" (24 : 12-13) و"لا تستغلّ أجيرًا مسكينًا أو فقيرًا، بل ادفع له أجرته في يومه" (24/14). كذلك يدعو الأنبياء إلى مساعدة الفقراء "وابسط يدكَ للفقيرِ أيضًا لكي تكملَ بركتُكَ" (يشوع  بن سيراخ 7/ 32).
هذا العهد لا يدعو إلى الإرادة الحسنة، أو إلى إثارة المشاعر، كما لا يحثُّ على الصدقة، بل يرسمُ إطارًا للعدالة الاجتماعية بإعطاء الفائض إلى المعدمين.

وإذا كانت التوراة العبرية إيجابية في تثمينها للثروة والغنى، فإن النظرة لم تكن واحدة، لا سيّما لدى الأنبياء. "بحكمتكَ وفطنتكَ اقتنيتَ يُسرًا وجمَعتَ ذهبًا وفضّةً في خزائنكَ. بكثرةِ حكمتكَ في متاجرتكَ كثّرتَ فتشامخَ قلبكَ من يُسركَ. فلذلكَ قال السيّدُ الرب: بما أنك جعلتَ مثل قلب إله لذلك هاءنذا أجلبُ عليك الغرباءَ أظلمَ الأمم" ( حزقيال 24 : 4-7)، ويقول إرميا (5 : 28) " إنّهم سِمانٌ برّاقونَ وهم يتعدّون حدود الشرِّ ولا ينصفون الحقَّ، حقَّ اليتيمِ وينجحون ولا يجرونَ حكم المساكين". لأن الفقراء والضعفاء والذين لا سندَ لهم، لا يدافع عن حقّهم أحدٌ. الله يصيرُ الحامي لهم. هذا لم يكن حكرًا على إيمان إسرائيل. ففي بلاد ما بين النهرين نشيدٌ حثّي إلى الإله شمش، إله الشمس قبل 1300 عام من بداية التأريخ الميلادي، وفيه "أيتها الشمس، أنتِ أب الكسحاء والمعدمين وأمّهم، هذا أنتِ أيتها الشمس تثأرين للكسحاء والمعدمين".كذلك يلجأُ الذين لا حمايةَ لهم إلى القدرة الإلهية. لذلك ينصح ابنُ سيراخ (8/2) "لا تشاجر الغني لئلا يفوقك ثِقْلاً. فإنَّ الذهبَ أهلكَ كثيرين وأزاغَ قلوبَ الملوك". كذلك يلعنُ إشعيا ( 10: 1-3)  الذين "يردون الضعفاء عن إجراء الحكم ويسلبون حقَّ وضعاء شعبي لتكون الأراملُ غنيمةً لهم وينهبوا اليتامى. فماذا تصنعون في يوم العقاب وفي الهلاكِ الآتي من بعيد؟"
      
       ليس امتلاك الأرزاق والثروات هو المذموم، بحسب التوراة، بل الإفراط فيه الذي يحفّز على تعميم الفقر ويوسّع بساط عدم المساواة. لكن عندما يقيم يسوع مقارنةً محسومة بين الله و"مامون" (Mamon)، تتغيّرالنبرةُ. فما معنى هذا التأليه للمال؟

     عبادة الله وعبادة المال: ما من أحدٍ يستطيع أن يعملَ لسيّدين

     ينقلُ متى عن يسوع (6: 24) "ما من أحدٍ يستطيع أن يعملَ لسيّدين، لأنه إما أن يَبْغُضَ أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يلتزم أحدهما ويزدري الآخر. لا تستطيعون أن تعملوا لله والمال ". لم يلجأ يسوع عندما شَخْصَنَ المال ومنحه إسم "مامون"، إلى وسيلة خطابية بسيطة ليمجّد قوّة الغنى. فهو عنى بذلك أن المال ليس مادةً أو متعًا، يبقى الإنسانُ حرّا في تملكّه أو لا. في كلَّ وقتٍ ، يمكن للمال أن يصير إلهًا، تُكرّس الحياة له.
     بالنسبةإلى الإنجيل، لا تؤسِّسُ العلاقةُ بالمال، فهي أولاً مسألةٌ أخلاقية، بل مسألةٌ من مستوى روحي. لا يستفسر يسوع عن الطريقة التي يُستخدم بها المال. عندما يتحدّث عن الثروات، يسأل على أي أساس تُبنى الكينونة: على أي أساس يَبني الإنسان حياته؟ وأي إله يتخذ له؟ يُمكن للمال أن يصير إلها. ما معنى إذًا " تخدمُ مامون"، هل يعني أن يستثمرَ المرءُ وجوده في خدمة المال؟ هنا يبدو الوصفُ إيحائيًا: فكلمة مامون تأتي من الجذر الآرامي "أمان" ما يعني الاستقرار، ومنها كلمة "أمين"، بها نؤكّد أن الصلاة هي حقيقة. فـ"مامون" تعني صُلب، مستقر، موضع ثقة. "مامون" هو ضمان الاستقرار.  (2)
    
(1)   - في الكتاب المقدّس – دار المشرق – العهد الجديد – حاشية صفحة 54:الترجمة اللفظية: "مامون" هذا اللفظ يجسّد "المال" كسلطان يستعبد العالم.
-     وفي المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم – الدكتور الخوري بولس الفغالي – المطبعة البولسية – الطبعة الأولى 2003 صفحة 1125 : مامون الآرامية: الغني. المأمون والثابت المال. المال وكأنه شخصٌ حي وقوّة تستعبد العالم(مت 6؛24؛ لو 16؛13 و16؛9 ).
-     مامون من أمن أي اطمأنّ إلى أمره.
  
(2)   Le monde de LA BIBLE  العدد 172، تموز – آب 2006، دانيال مارغيرات "الله والمال" صفحة 17. 




...فالغنى لا يضمنُ حياةً أطول

ويضربُ يسوعُ في هذا المجال، مثل الغني الجاهل، ردًّا على من طلب منه التدخل عند شقيقه ليقاسمه الميراث، ( لوقا 12: 13) وفيه يدحض أن تكون الثروة ضامنة لبقاء الإنسان:
"رجلٌ غنيٌّ أخصبتْ أرضه، فقال في نفسه: ماذا أعمل؟ فليسِ لي ما أخزنُ فيه غلالي. ثمّ قال: أعملُ هذا: أهدمُ أهرائي، وأبني أكبرَ منها، فأخزُنُ قمحي وأرزاقي. وأقولُ لنفسي: يا نفسُ، لكِ أرزاقٌ وافرةٌ تكفيكِ مؤونةَ سنين كثيرة، فاستريحي وكُلي واشربي وتنعّمي. فقال الله: يا غبي، في هذه الليلة تُستَرَدُّ نفسكَ منكَ، فلمن يكونُ ما أعددتَه؟ فهكذا يكون مصيرُ من يَكنَزُ لنفسه ولا يغتني عندَ الله" (لوقا 12: 16-21).
   
ويعني تكديسُ الثروات، من قِبَل هذا المالك الكبير، القلق من الغد، الخوف من الحاجة. في إرادته، أن يؤمّن على حياته بتحقيق الوافر من الثروات، فتلعبُ لديه المكافحة تجاه عدم الثبات، والقلق في مواجهة الفقر. يطمئنُّ الغني، ولا يعودُ يخشى حتّى الموت، "استريحي  يا نفسي"، لكنّ السخرية تبرزُ في وقتٍ اعتقدَ أنّه انتصرَ على ضعفه. ففي جاذبية المال يتربّصُ الموت. لأن المال يقدّم هنا كأنّه ضمانٌ ضد الموت. أو بالأحرى: إذا استُثْمِرَ المالُ كصنمٍ مخلّص، أو حصنٍ مميّز للخوف من الموت، يترك  وضعه كشيء ليصير مامون. "مامون" الذي يحمي من الموت.
يصفُ الإنجيل سلطان المال بقوله‘ إنه يتعلَّق  بـ "مامون جائر" (المال الحرام)، (لوقا 16، 9: 11). ويتقدّمُ سببان في الإجمال، لتكديس المال الحرام، من دون أن ينفي أحدُهما الآخر. تشيرُ العبارة أولاً، ومن دون مواربة، إلى أن المال يدور في نظامٍ اقتصادي مولدٍ للظلم. قبل كارل ماركس، قالها يسوع! لكنّ المال بخاصةٍ خدّاع لأنه لا يقدّم ما يعد به. فوعود هذا "الإله" هي أوهام، لأنها لا تحوّل عجزنا إلى قوّة، ولا ضعفنا إلى أبدية. "مامون" لا يقدّم الضمانات التي ننتظرها منه.

عبارة "مامون الجائر" هي ذات شفافية فجّة. توحي للذين يكدّسون المال، بأنهم شركاء في نظامٍ اقتصادي ظالم، وهم في الوقت ذاته، ضحايا وهمٍ قاتل. هل هذه الكلمة الأخيرة في الموضوع؟ لا ، لأن الإنجيل يُسجّلُ إلى جانب هذه المسلّمة، منفذًا من دون مجاملة. ويسمحُ لقاء يسوع وزكّا العشار بتقدّم خطوة، باختياره تغييرًا ممكنًا في استخدام المال.


يسوع وزكا: "السلام لذاك البيت"

يتفّرد لوقا بقصة زكّا العشّار ( لوقا 19، 1: 10) يروي عن يسوع:  "ودخل أريحا وأخذ يجتازها. فإذا رجُلٌ يُدعى زكّا وهو رئيسٌ للعشّارين غنيٌّ جاءَ يُحاولُ أن يرى من هو يسوع، فلم يستطع لكثرة الزّحام، لأنّه كان قصير القامة، فتقدّمَ مسرعًا وصعد جمّيزةً ليراه، لأنّ يسوعَ أوشك أن يمرّ بها. فلمّا وصل يسوعُ إلى ذلك المكان، رفع طَرْفَهُ وقال له: يا زكّا انزل على عجل، فيجب عليَّ أن أقيم اليومَ في بيتكَ. فنزلَ على عجل وأضافهُ مسرورًا. فلمّا رأوا ذلك، قالوا كلّهم متذمّرين: "دخلَ منزلَ رجلٍ خاطئ ليبيتَ عنده!" فوقف زكّا فقال للرب: يا رب، ها إنّي أعطي للفقراء نصف أموالي، وإنْ كنتُ قد ظلمتُ أحدًا شيئًا، أردّه عليه أربعة أضعاف. فقال يسوعُ فيه: اليوم حصل الخلاصُ لهذا البيت".

يتكوّن المشهد العام من زكّا المتلهّف ليرى يسوع، وهو رئيس العشّارين، خاطئ ويرذله المجتمع اليهودي آنذاك. فكيف ينزل يسوع عند زكّا الخاطئ ويبيت عنده؟ لكنّ التحوّل الكبير في المشهد، يبرز من سلوكيّة زكّا وردّ فعله لدى إستضافته ليسوع. لم يفكّر زكّا أن يتنازل عن ماله ولا أن يغيّر مهنته. بل أن يتنازل عن نصف ما كدّس من أموال إلى الفقراء، وأن يعوّض من تمّت ظلامتُه، أربعةَ أضعاف. هذا المال الذي عزله عن الآخرين، سيستخدمه، من الآن، ليخلقَ السعادة ويعوّض عن ظلامات. بدأ دورُ المال ينعكس بين يديه. زكّا لن يستفيد من الآخرين ليغتني، بل يجعل الآخرين يستفيدون من ثرواته. المال هنا ليس الذي يقطع العلاقات، بل الذي ينسجها. فرئيس جباة أريحا " اتخذ أصدقاء له بواسطة مامون الجائر، (المال الحرام)، (لوقا 16/9). بين "مامون" وزكا، بدّل السلطانُ موقعه، لم يعد المال الذي يتحكّم بعلاقات زكّا، ويقوضّها. صار زكّا هو الذي يسيطر على المال ويقرّر دوره. وبهذا التغيير، أو حتى بهذا الانقلاب في استخدام المال، صار ملكوتُ الله قريبًا: "هذا اليوم حصل الخلاصُ لهذا البيت".  

إن عكس دور المال، وهو بنّاءٌ للعلاقات وليس مهدّمًا لها، يتمثّلُ أيضًا لدى يسوع في مثل "الوكيل الخائن" ( لوقا 16، 1- 8). يضعنا المثل أمام شخصيّة غريبة "المدير المتهم بالإدارة الغشّاشة". يتأرجح الإنجيل في أن يسمّيه "الإداري الفطن"، أو مدبّر المال غير الأمين. فليس لدى الرجل شيءٌ محترم، إنّه عديم الاحترام. كان يعمل عند رجلٍ غنيٍّ، فشكي إليه أنّه يبذّر أمواله".  فدعاه وقال له: ما هذا الذي أسمعُ عنك؟ أدِّ حساب وكالتكَ، فلا يمكنكَ بعد اليومِ أن تكون لي وكيلاً. فقال الوكيلُ في نفسه: ماذا أعمل؟ فإنَّ سيّدي يستردُّ الوكالةَ منّي، وأنا لا أقوى على الفلاحة، وأخجلُ بالاستعطاء. قد عرفتُ  ماذا أعمل حتّى إذا نُزِعتُ عن الوكالةُ يقبلونني في بيوتهم. فدعا مديني سيّده واحدً بعد الآخر وقال للأول: كم عليكَ لسيّدي؟ قال: مئةَ كيلٍ زيتًا، فقال له إليكَ صكّكَ، فاجلس واكتب على عجل: خمسين. ثم قال للآخر: وأنتَ كم عليكَ؟ قال: مئة كيلٍ قمحًا. قالَ له: إليكَ صكّكَ، فاكتُب ثمانين. فأثنى السيّدُ على الوكيل الخائن، لأنّه كانَ فطِنًا في تصرّفه".

فعندما اتهم هذا الوكيل، لم يبحث عمّا يبرّره. واجه عملية إعادة تأهيله. وبما أنه لا يتحمّل القيام بأعمالٍ شاقّة، ولا ميل له للاستعطاء فيخجل منه، خلّص نفسه بالمكر، بالحيلة. فاستقدم المدينين لسيّده وخفّض لهم حجم الدين، " فأثنى السيّدُ على الوكيل الخائن لأنّه كان فطنًا في تصرّفه"، فنال الخائنُ مكافأةً على عدم أمانته!

في الواقع، ليست العملية لا أخلاقية، كما تبدو. فمعرفة القانون الروماني المطبّق في دساكر ولايات الإمبراطورية، تفيدنا بأن الوكلاء كانوا يقتطعون أرباحهم على هوامش العمليات التجارية التي يديرونها. ما يُسمّى حاليًا: "زيادة تكلفة الفاتورة" Surfacturation. فتقليصُ حجم الدين المتوجّب للسيّد، لا يعني سرقته، لكن يعني التنازل عن هامش الربح للوسيط. مرّةً أخرى العملية ليست لامعة ولكنها قانونية. لذا لم يكسف السيّدُ المكرَ لأنه لم يلحق الضرر به، ولكنّه سمح للوكيل بأن يكسب الربح المعنوي للعملية، قرب المدينين. فالوكيل كان يريد أن يربحَ المدينين فيقبلونه عندهم، لكنّه لفطنته ربح سيّده أيضًا.

والخلاصة كما يقول يسوع: " اتخذوا لكم أصدقاء بالمال (مامون) بالمال الحرام، حتّى إذا فُقِدَ، قبلوكم في المظال الأبدية" (لوقا 16/ 9) المظال الأبدية هنا تعني ملكوت الله. الصيغة هي جريئة ووقحة: استخدام الثروات لخلق علاقات عرفان بالجميل، أي الاطمئنان إلى الاعتراف بالفضل الذي يصل حتى الملكوت.

ما ينبثقْ من نظامٍ اقتصاديٍّ مولِّدٍ للظلمِ والحرام،
 هو في قوّته ميتٌ

يتحدّثُ يسوعُ في مكانٍ آخر من الإنجيل، عن الكنز السماوي الذي نربحه باستعمال المال الذي يخلق الحياة. "اكنزوا لأنفسكم كنوزًا في السماء، حيثُ لا يُفسد السوسُ والعثُّ، ولا يَنقبُ السارقون فيسرقوا" (متى 6/ 20). الفكرةُ هي ذاتها: المال، لأنه ينبثقُ من نظامٍ اقتصاديٍّ مولّدٍ للظلم والحرام، هو في قوّته ميتٌ. أما إذا استثمِر بالتقاسم مع الآخرين، منقذًا المحتاجين من خجله، فيصيرُ نبع الحياة.

هذا الفعل الذي به صار المال محبطًا من الأهداف التي استثمر فيها، مسلوب من ادعاء أنه يقدّم ضمانة ضد الموت، أملاه جاك أيلولل JACQUE ELLUL (1912 – 1994 – فيلسوف، مدرّس تاريخ، عالم اجتماع، لاهوتي بروتستنت – من أصل مالطي) بكلمة قوية: "الدنس". المال هو مدنّس عندما ينحصر دوره في وسيلةٍ مادية، تستعمل للمبادلات وللحياة. إلغاء قداسة المال تقضي بإدخال جو الهبات والمجانيّة، إلى مجتمعٍ يسيطر عليه "مامون" أي سلطة المال.

هذه الحريّة الإنجيلية تجاه الثروات تبلورت في شكلٍ مغاير في تاريخ المسيحية. (الفقر الاختياري، أو جماعات المشاركة) كلٌّ على طريقته انطلاقًا من كون المال لا يملك سببه الخاص لكينونته، بل لأنَّه مكرّس ليعكس حب العاطي الله.




دينار قيصر: لمن هذه الصورةُ والكتابة

وفي هذا المجال يُطرحُ السؤال: هل مسموحٌ، أو لا، دفعُ الجِزْية  لقيصر؟ إنجيل مرقس ينقل بهذه الطريقة، سؤال الفريسيين ليسوع (12: 13- 17). السؤال حاذقٌ وماكر، لأن الموضوع هو شديد الحساسية. فقد طُرِح على يسوع في وقتٍ كانت أرضُ فلسطين محتلّة. وتتضمّن الحقيقةُ الملازمة للسؤال، ظاهرة تجريبية، وأيديولوجية معًا. الشعبُ اليهودي كان يشعر بأنَّ دَفْعَ الجزيةِ يشكّلُ عبئًا كبيرًا، بل أكثر، فإن فريقًا كبيرًا منه، يعتبرها خضوعًا غير مقبول، إلى السلطة السياسية الرومانية. المؤرّخ الروماني تاسيت سجّل الميزة الأولى هكذا: « ولايات سوريا واليهودية، كانت مسحوقة بالضرائب، وتلتمس خفض الجزية». الصورة الثانية يقدّمها المؤرّخ اليهودي يوسف فلافيوس الذي رأى فيها سببًا من أسباب الثورة ضد روما: « يهوذا وصادّوق، أدخلوا عندنا وأيقظوا، شيعة فلسفية رابعة، فأحاط بهم الأتباع الكثر والمناصرون، فملأوا البلاد بالاضطرابات المباشرة، وغرسوا جذور الشر التي اجتاحت البلاد لاحقًا». فلافيوس يختصر عقيدة يهوذا وصادوق: « كانوا يدّعون أن هذا الإحصاء لا يحملُ معه سوى عبودية تامّة ودعوا الشعب إلى أن يطالب بحريّته». في هذا الإطار يُقرِّرُ جوابُ يسوع موقعه سياسيًّا، إمّا أن يكون يسوعُ ضدَّ الشعب أو ضدَّ روما. في الحالتين يُحقِّق خصومُ يسوع هدفهم. فإمّا يفقد يسوع اعتباره من الشعب، أو يقدّمه أخصامه، الذين لهم دافع لإسكاته، إلى الحاكم الروماني، على أنّه محرّض.

وتلافى يسوعُ الفخَّ. إنّه يعرف النوايا العميقة لمحاوريه: هؤلاء يتبنّون وجهة نظر مفوّضيهم، يريدون الإيقاع بيسوع. مرقس أظهر، بلذّةٍ، مناورة يسوع وتفوّقه على خصومه. فحتى لو وحدّوا قواهم ومعرفتهم، فإنهم يعجزون أن يأخذوا يسوع بخطأ. وكسيّد حاذق أو ماهر، وسّع يسوع المعركة بدعوة أخصامه إلى أن يشاركوا في إعطاء الجواب، المفترض أنه منتظر. يَسوع  يشركهم في تحمّل مسؤولياتهم: «ائتوني بدينار لأراه ». فجلبوا واحدًا ، فسألهم: « لمن هذه الصورة والكتابة؟». أجابوه: إنها لقيصر. عندئذٍ، وبأسلوبٍ غير منتظرٍ كليًا، أدخلَ يسوع عنصرًا جديدًا باختصاره العكس بهذه الكلمات: «ما لقيصر ردوه لقيصر، وما هو لله إلى الله ».

وبحسب نيّته، أجابَ يسوع على السؤال محبِطًا الفخ المنصوب. في الجزء الأول جواب يسوع فيه لبسٌ. بما أن محاوريه قدّموا له قطعً نقدية تُستخدم في دفع الضريبة، فقد حثّهم على ردّها إلى مَنْ تعود. لكنَّ يسوع لا يدعو إلى إعادة الدينار فقط إلى قيصر، بلْ يستعمل عبارةً أوسع، « ما لقيصر ta kaisaros ».  أي «ثروات قيصر». المحاورون سيقرّرون بأنفسهم ما الذي  يكوّنُ ثروات قيصر: التمييزُ يتضمن مخاطرة. القسم الأول من الجواب لا يتضمّن العنصر الأساس، إذ حتى يُفهمَ المغزى العام، يجبُ الانتباه جيّدًا إلى المعنى غير المعلن ليسوع: وما هو لله إلى الله أي ثروة الله إلى الله. إن نطاقي قيصر والله غير منفصلين. ما يفترضُ جزءًا من النمط الاستدراكي، مثل  «الله». لكن يسوع يُعبّرُ عن علاقة بين قيصر والله. يوجد نطاق شرعي لقيصر، لكن هذا النطاق هو نسبي مقارنةً مع ما يجب أن يُردَّ إلى الله: قيصر لا يمكن أن يُفهم بمعنى الله. فلكي يُفهم العنصر الثاني من جواب يسوع، تجبُ العودةُ إلى ما حرّك العنصر الأول: الصورةُ والكتابةُ. إنهما لقيصر، ويتوجب أن تردّا إليه. ويوجد مثلهما لله: « صورته» إيكون  EIKÔN  و«الكتابة العائدة له»، يجب أن تُردّا إليه. إذ في كتابات سفر التكوين، كلُّ يهوديٌ يعرف أن الرجل والمرأة هما صورة لله (تكوين 1: 26 – 27).إعادة الثروة لقيصر، تبرّرها الإيقونة المحفورة على العملة، لكنها محدّدة بحق الله الذي صورته هو الإنسان. ما هو لقيصر هو قطعة النقود وما هو لله هو الإنسان. هذا ما يحدّد أموال قيصر. فإذا لم يكن من مجال لرفض دفع الضريبة، فالخضوع للأمرِ لا يعني قبول كل شيء من قيصر. يدعو يسوع إلى أن تعادَ إلى قيصر صورته، لكن الإنسان، صورة الله، فيردُّ إلى الله. وتُعزّز الإيبوغرافيا شرح الإيقونة، بلوغًا إلى أن الوصايا محفورة في قلب الإنسان.  أو الكتابة على اليد من أجل يهوه ( كميل فوكان – الإنجيل بحسب القديس مرقس – صفحة 450). إلى الله يجب أن يُرد من هو صورته ويحمل في قلبه وصاياه وأقواله. هذه الصفات تميّز كل إنسان وبالأخص من يحيا من كلام الله.

أنار يسوع محاوريه، لكن بحسب عادته، دعاهم إلى أن يصوغوا قراراتهم الخاصة بهم. يضع كل مالٍ وكل إنسانٍ في موضعه الصحيح. يجعل هكذا، سلطان قيصر ضعيفًا من الأساس. أما بالنسبة إلى المحاورين المستنيرين بجواب يسوع، فقد أعادهم إلى موقعهم الصحيح، عليهم أن يختاروا مسؤولياتهم في موضوع السؤال الذي طرحوه: هل هم من فريق قيصر؟ أم من فريق الله؟ يمكنهم أن يردّوا إلى قيصر أمواله، مؤكدين له، في الوقتِ ذاته، أن سلطته ليست مطلقة.
فالطرح يفصل بين الدين والسياسة، يقولُ الأب بولس فغالي (الكتاب المقدّس – الفصل 23 – أداء الجزية – من إنجيل متى 22: 15- 21): « هذا المقطع هو إنجيل الفصل بين الله وقيصر، بين السياسة والدين. اتخذ الأساقفة موقفاً فسمعوا من يقول لهم: اهتموا بأموركم واتركوا لنا أمورنا. فكأن يسوع قسم مجالات العمل. هنا الله وهناك قيصر. يسوع لا يحدّد شيئاً. فحين نعطي ما لنا لله فإننا نعطيه كل شيء. نسلّمه حياتنا كلها مع التزاماتنا الشخصية والسياسية أيضاً.
وإذا كنا لا نحبّ أن نلتزم في هذا المجال، فلنسمع  يسوع يقول: أعطوا ما لقيصر. فداخل ما نعطيه لله هناك التزاماتنا المسيحية والدينية تجاه قيصر، أي تجاه المسئولين عن حياة الجماعة.
وخدمة الله المركّزة على الوصيّة العُظمى، وصيّة المحبّة الأخوية، تدفعنا إلى خدمة قيصر حين يكون قيصر في خدمة جماعة يؤمّن لها السعادة، وتدفعنا إلى معارضته حين يقود إلى شقاء شعبه ولا سيما الضعفاء والفقراء. هذا في السياسة. وكلنا يعمل في السياسة، وحتى حين نحتقرها. ولكن شرّ الأمور هو أن نترك الأمور تسير على هواها، هو أن لا نعمل شيئاً حين يجب أن نعمل».
إن الفصلَ بين السياسة والدين، لا يُلغي الواجبات السياسية والاقتصادية المتوجّبة على المواطن، فعليه أن يدفع الضريبة، ليس لمحتل مثل قيصر بل للحكومة المسؤولة. ويسوع نفسه دفع الجزية. ينقلُ متّى (الفصل 17: 24-27) «ولمّا وصلوا إلى كفرناحوم، دنا جُباةُ الدرهمين إلى بطرس وقالوا له: أما يؤدّي معلِّمُكم الدرهمين؟ قال: بلى. فلمّا دخل البيتَ، بادره يسوع بقوله: ما رأيكَ يا سمعان؟ ممّن يأخذُ ملوكُ الأرض الخراج أو الجزية ؟ أمن بنيهم أم من الغرباء؟ فقال: من الغرباء. فقال له يسوعُ: فالبنون معفون إذًا. ولكن لا نُريدُ أن نكونَ لهم حجر عثرة، فاذهب إلى البحر وألقِ الشصَّ، وامسك أول سمكة تخرج وافتح فاها تجِد فيه إسْتارًا، فخذْهُ وأدّهِ لهم عنّي وعنكَ».

المــال للجميع

نَبَذَ يسوعُ أن يكونَ للمال سلطانٌ على الإنسان، فيبعده عمّا يُحيي الروح ويهذّب النفس. واعتبر قضاء الحياة في جمع المال تحصينًا للحاجة أو تحصينًا من الموت أمراً يثيرُ السخرية، فسلطان المال يمكنه أن يحقّق أيّة سعادة دنيوية، يتمتّع صاحبه بما يريد، لكنّه لا يستطيع أن يمنع عنه نهاية هذه الحياة بالموت.

لم يمنعْ يسوعُ المرءَ من أن يعمل، وهو عاقب العبدَ الذي لم يثمِّر أموال سيّده، والتينة التي لم تُثْمر، واعتبر مصيرَ أغصان الكرم التي لا تثمرْ إلى النار. ولم يكن ضد تأمين فائضٍ متواضع من المال، يمكن إنفاقه لدى الحاجة. ففي مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات (متى 25: 1-13)، خيرُ أمثولةٍ على ذلك. فالحكيم هو من يعرف أن يبقى مستعدًا لمواجهة أية مفاجأة، على الصعيدين المادي والدنيوي، الجسدي والروحي، أي أن يكتنز له ما يؤمّن حاجةً يستعملها في الضرورات. هذه الضرورات تحتمل مساعدة الآخرين، في تعاليم يسوع. وهو عندما يتحدّث عن الدينونة العظمى (متى 25: 31-46)، ويبارك  الجالسين عن يمينه لأني "جعتُ فأطعمتموني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني"، إنما يتحدّث عن إشراك الناس في الثروة، ليس من أجل فريق منهم يعيش على حساب غيره، ويبقى عاطلا  من العمل، بل لأن كثيرين لا يجدون عملاً، أو هم غيرُ قادرين على تتميم الأعمال لعاهةٍ أو لسبب ما. فيسوع يُلفت إلى مساعدة المحتاجين، وهو يقولُ: "كلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه"، في دعوةٍ صريحةٍ إلى اقتسام المال مع المحتاجين، وليس مع الكسولين الذين لا يعملون.

ويدعو يسوع إلى العمل، ويكره المتعطّلين، لكنّه يُميّز في ما بينهم وبين الفقراء غير القادرين على العمل والإنتاج مثل المقعدين والمرضى والغرباء، وحتى المسجونين هم في حاجة إلى رعاية واهتمام، فضلاً عن الذين لا يجدون لهم عملاً. هؤلاء، هم أصحاب حاجاتٍ في الحياة المادية، يعجزون عن تأمين الضروري والملحِّ منها، وعلى المقتدرين أن يساعدوهم باقتسام الثروات المحقّقة معهم. فلو كان الإنسانُ غير قادرٍ على تلبية حاجاتهم لازداد الفقر وتوسّع بساطُ البؤس.

ورغم دلالية مثل الفعلة وأجرتهم (متى 20: 1-16)، على "ملكوت الله"، فهو  يفيد، من الوجهة الماديّة، كم أن يسوع يُشفق على العاطلين من العمل. فلدى خروج ربّ البيت إلى الساحة مرارًا كان يجد عملةً بطّالين، حتى بلغ الساعة الخامسة، ودوام العمل قارب الانتهاء" فلقي أناسًا آخرين قائمين هناك ، فقال لهم: لماذا أقمتم هنا طوال النهار بطّالين؟ قالوا له: لم يستأجرنا أحد. قال لهم: اذهبوا أنتم إلى كرمي". فسؤاله إلى الآخرين طُرِحَ بطريقة التأنيب، كأن هؤلاء الناس لا يريدون أن يعملوا، فجاء الجواب، بأن بطالتهم ناتجة عن عدم توفّر مجالات العمل!

ودلالية المثل أيضًا، تشمل رب العمل، الذي يجب أن يحتضن ما وسعت قدرته من عمّال. فربّ البيت الذي خرج "عند الفجر ليستأجر عملةً لكرمه"، إنما استأجر العدد الكافي للقيام بالعمل، ولم يعد في حاجةٍ إلى عمال جددٍ، لكن صعُبَ عليه أن يجد أناسًا بطّالين نظرًا إلى ما تُسبّبه البطالة من فقرٍ ومن مآسٍ وشرور، فاستأجرهم، وهو بذلك وضع أساسين اقتصاديين:

الأول : مشاركة رب العمل، الناسَ في كَرَمه، بقوله للعملة الذين اشتغلوا النهار كلّه، واحتملوا ثقله وحرِّه الشديد: " ألا يجوزُ لي أن أتصرّف بمالي كما أشاء؟ أم عينك حسودٌ لأني كريم".(1) ما يفرضُ، في حالات الشدائد الاقتصادية، على أرباب العمل أن يحتفظوا بالعاملين لديهم، أو أن يُفسحوا مجالات فرص العمل للعاطلين البطّالين، حتى لو لم يكونوا في حاجةٍ إلى جهودهم وإنتاجيتهم، ولو كان ذلك يخالف مفهوم الاقتصاد الحديث، ومعايير تحقيق التنافسية.

الثاني: أن خلق فرص العمل، وإن فائضة، تُحرّك النشاط الاقتصادي. البطّال من العمل لا يمكنه أن يُنفق الأموال، وتاليًا هو لا يستهلك. لذا لا يعود ربُّ العمل قادرًا على تسويق إنتاجه فيتضرّر هو بدوره. وكما تكون الدورة الاقتصادية إيجابية،- بخلق فرص العمل والإنفاق والاستهلاك، وتفعيل الدورة الاقتصادية لزيادة الإنتاج، وهو واقعٌ أكيد من اقتصاديات القرن الحادي والعشرين،- فيمكنها أن تكون سلبية في حال تدنت القدرة المالية على الإنفاق.

     ونتوقف في المثل عند تذمّر العملة الأولين، الذين عملوا النهار كلّه، وتحمَّلوا ثقله وحرّه. هؤلاء، ظنوا أنهم يستأهلون أكثر من رفاقهم، الذين عملوا جزءًا من النهار. فجواب رب العمل كان لواحدٍ منهم: "يا صديقي، ما ظلمتك، ألم تتفق معي على دينار؟ خذ ما لك وانصرف". فرب الكرمِ يعمل ما يراه عدلاً، وليس حقًّا. لكن العملة الأولين، وإن عملوا طول النهار وتحمّلوا ما تحمّلوه، فقد أسقط عنهم رب العمل عبئًا كبيرًا. فالعملة الجدد أنجزوا أعمالاً وخففوا وطأة إنجازها عن العمّال الأولين، كلٍّ بحسب مباشرته العمل، فكان يمكن لرب العمل أن يجتزئ الأجر، فلم يفعل، بل التزم العقد بين الفريقين.

والتزام العقد بين فريقي الإنتاج، هو أيضًا سلوكية لا نجدها عند سائر أرباب العمل، الذين، وإن لم تربطهم بعقود العمل موجباتٌ كثيرة بحكم القوانين المعمول بها، وليس بحكم مضمون العقود، إلا أنهم يتبرّأون منها.

ذهبَ محلَّلون كثرٌ إلى اتهام يسوع بأنّه غير عادل، بعرضه هذا المثل، لا سيّما من ينتمون إلى مذاهب دينية غير الدين المسيحي، ويرتكز اتهامهم على مسلِّمة صاحب الكرم تحقيقَ المساواة في الأجر في مقابل التفاوت في ساعات العمل، علمًا أنّ نوعية العمل هي ذاتُها وإمكانات العمّال لا تختلف.
لكنْ فاتَ هؤلاء أمرين: الأول أنَّ المثلَ يُشيرُ إلى الجماعات التي تعترف بيسوع تباعًا وتنتسب إلى تعاليمه وتنخرط في الدين المسيحي، سواء في أيّام كرازة يسوع قبل ألفي سنة، أو في الوقت الراهن أو حتى قبل قليل من نهاية العالم.
كما يُشير إلى الذي يمارس حقيقة الدين المسيحي طيلةَ حياته أو الذي يتوبُ في نهاية تواجده على الأرض، أو يعتنق الدين المسيحي قبل أن يموت بقليل.
هؤلاء جميعهم يتساوون في دخول الملكوت إذا توفّوا في حال النعمة والبرارة.

أمّا الأمر الثاني فيُلفتُ إلى أمرٍ مادي يُستفادُ من الأجر الذي دفعه ربُّ البيتِ، صاحبُ الكرمِ. فهو دفع إلى كلٍّ من العملة "دينارًا واحدًا"، وكانَ الدينار الروماني بحسب "المُرشد إلى الكتابِ المقدّس" يُدفع "أجرةّ يومِ عملٍ واحد إلى العامل العادي" (صفحة 109). أي ما يوازي الحدّ الأدنى للأجر في الاقتصادات المعاصرة، ويُفترض تاليًا أن يكفي لإنفاق أسرةٍ واحدة لتلبية احتياجات معيشتها اليومية، من هنا يُفهم سؤال ربُّ الكرمِ إلى عمّال الساعة الخامسة: "لماذا أقمْتم هنا طوالَ النهارِ بطّالين"؟ ولمّا علمَ أنَّ أحدًا لم يسْتأجرهم، دعاهم إلى كرمه ليؤمِّنَ لهم معيشة يومهم لهم ولعيالهم، تماشيًا مع مطلبِ الصلاة الربّية "أعطِنا خبْزَنا كفافَ يومنا"، واستكمالاً لتفادي نتائج البطالة على الاقتصاد والمجتمع. 


هامش

(1)            في كلامه عن إنجيل لوقا - الفصل الخامس والثلاثين الذي يحملُ عنوان "الصعود إلى أورشليم والموت والقيامة"، (9:51 – 24:53) يُفردُ الأب بولس الفغالي مقطعًا عن المال بعنوان "نقطةٌ حرِجَة: المال"، يكتبُ فيها:
"هناك امتحان حاسم: موقف المؤمن تجاه المال، تجاه ما يرمز إليه وما يفعله في علاقات البشر بعضهم ببعض. لقد تعرّفنا إلى اهتمام لوقا بالتعلق بالمال حين تحدّثنا عن التطويبات كما ترد عنده. وها هو يعود هنا إلى الفكرة عينها ويشدّد ليؤكّد على ما في الإنجيل من بعد حرجٍ يجسّده التلاميذ في الواقع اليومي (12: 13- 30، 14: 12- 33، 16: 1-31، 18: 18 – 30، 19: 1-10).
وحين يتكلّم لوقا عن كنيسة أورشليم الفتية (أعمال 2: 42- 5: 42) ستبدو له المشاركة الفعلية في خيرات الأرض علامة الحياة الجديدة، علامة العلاقات الجديدة التي يبنيها الإنجيل بين البشر.لماذا يتكلّم لوقا بهذه الطريقة؟ إنه يتوجّه إلى الجماعات المسيحية العائشة في المدن الهلنستية حيث الفصل بين الأغنياء والفقراء على أشدّه. ذكّرهم بأن كلمة يسوع "والنار التي جاء يحملها على الأرض" (49:12) تحكم على الواقع البشري، تحوّل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يسيطر عليه التعبّد للمال والبحث عن المنفعة الشخصية (13:16).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق