القسم الثاني
لإقتصادُ الزراعي
يعلنُ يسوعُ "أنَّ الشجرةَ تُعرفُ من ثمارها". ويكشفُ وراء القشرةِ الغريبة، عُصارةً ملعونةً ( متى 12: 33 – 35). ويعلّم التلاميذ كيف يميّزون الأنبياء الكذبة: "من ثمارهم تعرفونهم. أيُجنى من الشوكِ عنبٌ أو من العليّق تينٌ؟" (متى 7/16).
الفصلُ الأول
الاقتصاد الزراعي
بَذْر البذور والنمّو ثمَّ إتيان الثِمار، وأخيرًا الحَصادْ
لمْ يقاربْ يسوع في تعاليمه المواضيع الاقتصادية الإنتاجية إلاّ من ناحية مدى تطابقها في تثميرها المادي مع التثمير الروحي، الذي يهدفُ إلى إفهامِ تلاميذه والمؤمنين الجدد مغزاه. وتاليًا مدى العقوبة التي تَنْتَظِرُ من لا يعملْ إرادة الله في تشبيهٍ مع الأغصان التي لا تُثمر فتقطع عن الشجرة، وتُتركُ لتيْبس ثم تحرقُ في النار. وهكذا حصدت الأمثال التي تتعلّقُ بالزرعِ والزراعة حصةً كبرى من بين الأمثال التي شبّه يسوع بها ملكوتَ الله. بخاصةٍ أن للزراعة دورًا أساسيًا في حياة المجتمع الذي عاشَ يسوعُ في بيئته، ونمطًا اقتصاديًا يكشفُ حياةَ الأسيادِ أصحاب المساحات الزراعية الواسعة من سهولِ قمحٍ وكروم، انتهاءً إلى إشاراتٍ واضحةٍ حول التصنيع الغذائي في أيّام يسوع مثل زيت الزيتون والخمر والطحين، مرورًا بالخزنِ والأهراءاتِ.
وفي الحياة الاجتماعية أيضًا تربيةُ المواشي، الرعيُ والرعاة، وصيدُ الأسماك في البحيرات الداخلية وأشهرها طبريا أو بحرُ الجليل "حيثُ كانَ السمكُ وافرًا" (1) وفي البحر.
ويقدّم معجم اللاهوت الكتابي على الصعيد الزراعي، (2) لفعل "زَرَعَ" بالقول: "يسيرُ تطوّر الطبيعة وتاريخُ البشر، كما يسيرُ عملُ الخلق والفِداء، على المنوالِ ذاته: بَذْر البذور والنمّو ثمَّ إتيان الثِمار، وأخيرًا الحَصادْ. هناكَ تَطابقٌ كامل بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي لكلمة يزرع". فالله في يومِ الخَلْقِ "أعطى الأرضَ نباتًا قادرًا على التكاثر، بقوله: نباتًا تنْبُت (تكوين 1: 11 – 12).
1 – المرشد إلى الكتاب المقدّس – طبعة جديدة منقّحة – جمعية الكتاب المقدّس في لبنان ومجلس كنائس الشرق الأوسط – 1996 وطبعة ثانية 2000 – صفحة 90 – 93 حياةُ العمل .
2 – صفحة 393.
الأرضُ المُجدِبة والأرضُ المثمرة
يستندُ يسوعُ إلى مَثَلِ الزارع ليشبّه به منْ يسمع كلمته، أيْ كلمة الله. ويسرُد الإنجيليون متى ومرقس ولوقا المثل في تفاوتٍ وصفيٍ بسيط يُضفي على الرواية مفاهيمَ زراعية يتّبعها الفلاّحون.
يقولُ يسوع: "هوّذا الزارعُ قدْ خَرَجَ ليزْرع وبينما هو يزرع وقعَ بعضُ الحبِّ على جانبِ الطريق، (لوقا: فداسته الأقدام) فجاءت الطيورُ فأكَلَتْهُ، ووقعَ بعضُه الآخر على أرضٍ حَجِرَة لمْ يكنْ له فيها تُرابٌ كثيرٌ، فنبتَ منْ وقتهِ لأنَّ تُرابَه لمْ يكنْ عميقًا ( لوقا: لم تكن الأرضُ رطبة). ولمْ يكنْ له أصلٌ فيَبِسَ. ووقعَ بعضُه الآخر على الشَّوكِ فارتفعَ الشَّوكُ فخنقَه. ووقعَ بعضُه الآخر على الأرضِ الطيّبة فأثمَرَ، بعضُهُ مئة، وبعضُهُ ستين، وبعضُه ثلاثين". (متى 13: 3 – 8، مرقس 4: 3- 9، لوقا 8: 5 – 8)
يدُلُّ المثلُ على محصول الحبوب بحسب نوعيّة الأرض، أكثر مما هو تعليمٌ في التفاوت بين البداية والنهاية، فهناكَ ثلاثُ أراضٍ عقيمة وأرضٌ طيّبة ذات ثلاثة محاصيل. وللمثل تفسيران: يُشدد الأول على الثقة بأنّه لا بُدَّ من الإثْمار النهائي، على رغم أنواع الفشل الحالية. ويُشدّد الثاني على الدعوة إلى أن يكونَ الإنسانُ أرضًا طيّبة تُخرِج ثمرًا وافرًا. (1)
لكنّ المثلَ يلْفِتُ في إطاره الطبيعي إلى مفرداتٍ تتعلّق بالمناخِ العام للزرعِ، فالعائدُ الاقتصادي الجيّد لا يتحقّق إلاّ في أرضٍ خصبة ليسَ فيها شوكٌ ولا تكثرُ فيها الصخورُ والحجارةُ ولا تكونُ سطحيةً مكشوفةً لا تُربةَ عميقة فيها أو هي قريبةٌ من الطريق. فالشوكُ يخْنقُ البزور، والتُربةُ غير العميقة لا تختزنُ الرطوبة الكافية لإنبات البزور كما يوضحُ لوقا، في زمنٍ كانت أساليبُ الريّ محصورة وبدائية. أمّا ما يقعُ على الأرض الصلبة أو الطريق فتدوسه الأرجل وتأكله الطيورُ التي يطعمها اللهُ من دونِ أن تتعب. وفي هذا القسمِ من المثل هامشُ الخسائر الزراعية التي يتكبّدها الزارع الذي يبذرُ بيده فيذهبُ قسمٌ من البذارِ إلى خارج الأرض الجيّدة والخِصبة ويُعتبرُ خسارةً، في مقابل إنتاج الأرض الجيّدة مواسمَ يتدرّج حجمُ الإنتاج فيها من ثلاثين إلى ستين فمئة، من دونِ تحديد حجم البذار أو مساحة الأرض بما يعني أنّ الحبّة تغلُّ مئة حبةٍ أو ستين أو ثلاثين وتعوّض الخسائر الناتجة من عملية الزرع.
أضرار الزرع، الشرير والزؤان
وإذا كانَ يُفلتُ من يدِ الزارعِ قسمٌ من البذار خارجَ الأرضِ الخصبة فيُهدرُ، فإنّ الخطرَ الأدهى يكمنُ في خلطِ بذار القمحِ بحبوبٍ ضارّةٍ مثلَ الزؤان. وهو وإن كانَ في كلامِ "ربِّ البيتِ" الذي هو يسوع وتاليًا الله، من زرعِ الشرّير أي الشيطان، فإنّ استئصاله قبلَ أوانِ الحَصاد يُتلِفُ قسمًا من القمح، ويُفضّل اقتلاعه مع الحصاد. ففي المثل الذي ينقله متى يرفضُ صاحبُ الحقلِ وهو ربُّ البيتِ، أن يقتلعَ خَدَمُهُ الزؤان "مخافةَ أن تقْلعوا القمحَ وأنْتُم تَجمَعونَ الزؤان، فدعوهُما ينبتانِ معًا إلى يوم الحَصاد، حتّى إذا أتى وقتُ الحصادِ أقولُ للحصّادين: إجمعوا الزؤانَ أولاً واربطوهُ حُزَمًا ليُحْرق. وأمّا القمحَ فاجمعوه وأتوا به إلى أهرائي". ( متى 13/29)
ويُلفتُ أنَّ الزؤانَ لا يُضرُّ بنَبْتِ القمحِ، فلا يَخشى صاحبُ الحقلِ على موسمه، بلْ يَخشى أن يُجمَعَ بعد استخراج حبوب القمح فيختلط قسمٌ منه فيه ما يُضرّ بهذه الحبوب وتصيرُ تنقيتها منه مكلفة. لذا يأمر "ربُّ البيتِ" أن يُجمعَ الزؤانُ أولاً فيربطُ حِزمًا ليُحرق. ما يَعني في العالم الآخر، أنّ من يبقى في الخطيئة ليوم الحَصاد يكونُ مصيره تلقائيًا النار.
الأرضُ تُنبتُ من حالها، والحصادُ بعد أربعة أشهر
لا يتحدّثُ يسوعُ عن الاهتمامِ بحرثِ التربةِ وتسميدها في أمثالهِ عن زرعِ الحبوب، والقمحِ بلْ عندما تناولَ مثلَ التينة التي تأخرتْ في الإثمار. وطبيعيٌّ أن يعتني الفلاّحون بالأرض، إذ كانت الزراعة من "أهمِّ الأعمال. فعندما تُرطّبُ أمطارُ الخريف المبكرة التُربةَ، (وهو ما ألمَحَ إليه لوقا سابقًا)، تأخذُ سِكّةُ الفلاّح الخشبية التي يجرّها ثوران، تشقُّ الأرضَ استعدادًا لزرعِ البِذار، الذي كانَ الفلاّحونَ يرشّونه باليدِ بين الأثلام وينتظرونَ أمطارَ الربيع المتأخرة التي تُنمّي الحَصاد". (المُرشد إلى الكتاب المقدس – صفحة 92) ما يَعني هنا أنّ الزرعَ ينبتُ لحاله من دونِ اهتمامٍ لاحقٍ من الإنسان، بل بعنايةٍ من الله الذي لا يتركُ عبيده، بل يهتمُّ بهم كما يهتمُّ بإنْبات البذار والأشجار المثمرة وغيرها ويطعم الطيور حتى أكثرها بشاعةً وشؤمًا "الغربان"، ويُفتّحُ زهور الحقل. "فالبَذرُ ينبت ويَنمي... فالأرضُ من ذاتها تُخرِجُ العُشبَ أولاً، ثمّ السُنبل، ثمَّ القمحَ الذي يملأ السنبلَ. فما أنْ يُدركُ الثمّرُ حتّى يُعملُ به المنجلُ، لأن الحَصادَ قد حان" (مرقس 4: 26 – 29). وهذه الظواهر الطبيعية التي دَوْزَنَ الله دورتها الحياتية يراها الإنسانُ ولا يُدركها مثل "الريحِ، تهبُّ حيثُ تشاءُ فتسمعُ صوتَها ولكنّكَ لا تدري من أينَ تأتي ولا إلى أينَ تذهب". (3/8)
وتَرتبطُ مواسمُ الزَرْعِ بالتغيّراتِ المناخية، فهي في حاجةِ إلى أمطارِ الخريف المبكرة وإلى أمطار الربيع المحيية للنبْتِ. ويَطرَحُ التبدّل المناخي الذي يلفُّ الكرة الأرضية، والناتج عن انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والاحتباس الحراري، إشكالية زرع القمح والحبوب في مواعيدها أو تهيئة المناخ الملائم لها. أوليسَ تهديمُ بيئة التربة الجيّدة للزرع من عملِ الشيطان؟ هو لا يختلِفُ في شيءٍ عن زرعِ الزؤان الذي يشوب نباتات القمح، لأنّه يضرّ بالتربة الجيّدة فيحكمها الجفاف وتتحوّل إلى رمالٍ صحراوية فلا تعودُ تُثمرُ مئةً أو ستين أو ثلاثين، بل تُجدبُ نهائيًا.
الشركة الاقتصادية، وعمل الخير
وتشكّلُ عمليةُ الزرع ومهنُ الزراعة سلسلةً اقتصادية عناصرها أصحابُ الحيازاتِ العقارية من أراضٍ خصبة، والفلاّحونَ الذينَ يعملون في الحرْثِ والزَرْعِ والحصَادِ، وتاليًا التذرية وفصلِ الحبوب عن القشِّ (التبن)، ثمّ إلى الاستهلاك ما يجعلُ جميع الفرقاء فرحين. يسألُ يسوع: "أما تقولونَ أنتم: هي أربعةُ أشهرٍ ويأتي وقتُ الحَصاد؟ هوذا الحَصّادُ يأخُذُ أجرته فيجمع الثمرَ للحياة الأبدية فيفرحُ الزّارعُ والحاصدُ معًا، وبذلكَ يصدُقُ المثلُ القائلُ: الواحدُ يزرعُ والآخرُ يحصَدُ. (يوحنا 4: 34 – 37)
ويتناولُ يسوع خزنَ الغلالِ في مَثَلِ الغنيِّ الذي أخصبتْ أرضهُ وأثمرت وأنْبتَتْ غلالاً وفيرة فوسّعَ أهراءاته ليخزنها. ويُلفتُ إلى عملية الطحنِ عرضًا عندما يتحدثُ عن الأيام الخطيرة في يوحنا حيثُ "تكونُ امرأتان تطحنان بالرّحى فتُقبَضُ إحداهما وتُتركُ الأخرى". (24/41)، وعملية تخمير الطحين ليصير عجينًا ويتحوّلَ إلى خبزٍ. وتأتي التلميحاتُ لتؤكد كلّها أهمّيةُ ملكوت الله والحياة ما بعدَ الموت، فيما يُستفادُ ممّا عرضه من تعاليم سامية وتشبيهاتٍ اقتصادية في التثمير للحياة الدنيا، مع ضرورة عدم التعلّق بخيراتها فتحجبَ الاهتمام بالآخرين المحتاجين والفقراء، وتُبعدُ أصحابها عن الله. فعملُ الخيرِ الصغير يمكن أنْ ينمو ويكبر مثل حبّةِ الخرْدل التي "أخذها رجلٌ وزرعها في حقله. هي أصغرُ البزور كلّها، فإذا نَمَتْ كانَتْ أكبرَ البقول، بلْ صارتْ شجَرَةً حتّى إنَّ طيورَ السماءِ تأتي فتعشِّشَ في أغْصانها". (متى 13: 31 – 32، مرقس 4: 30 – 32، لوقا 13: 18 – 19)
التينةُ الملعونة والتينةُ التي لا تُثمرُ
يظهرُ مشهدُ التينةِ في تعاليم يسوع والأناجيل في ثلاث لوحاتٍ مختلفة، التينة التي لمْ تُعطِ ثمرًا في غير أوانه، والتينةُ التي لم تُثمر بعد سنواتٍ على غرسها، والتينةُ التي تبشّر بقدوم الصيف. ويتعارضُ التعاطي معها في مشهدين مختلفين: الأول ما أورده متى (21: 18 – 91)، ومرقس (10: 12 – 14)، عندما طلبَ يسوعُ ثمرًا من تينةٍ ليسدّ به جوعه، فلم يجده، فقالَ لها:"لا يخرجَنَّ منكِ ثمرٌ إلى الأبد" فيبستْ التينةُ منْ وقتها. ويُبرّر مرقس عدمَ إثمار التينة "بأنَّ الوقتَ لمْ يكنْ وقتَ التين". فيسوع الذي خرجَ من بيت عنيا في الغد، "أحسَّ بالجوعِ، ورأى عن بُعْدٍ تينةً مورقةً، فقصدها عساهُ يجدُ فيها ثمرًا. فلمّا وصلَ إليها لم يجِدْ عليها غيرَ الورق". ويتوقف متى هنا، خلافًا لمرقس الذي برّرَ عدم وجود التين بكون "الوقتَ لمْ يكنْ وقتَ التين".
لا شكَّ في أنّ اللوحةَ تُثيرُ جدلاً مثلَ أيّة لوحةٍ أخرى من أمثلة الإنجيل. لكنّ يسوع في تصرّفه يُعيدُ إلى الأذهان جدلية الإنسان المثمر. لمْ يلعنْ التينةَ هنا لأنّها لا تحملُ ثمرًا، فهو في اللوحة الثانية من مشهدية التينة نراه يطلبُ العنايةَ بها لتُعطيَ ثمرًا ويُمهِلُها قبلَ أنْ يقطعها. فيسوع يعرفُ منْ بعيد أن التينةَ لا تحملُ ثمرًا ناضجًا على الأقل، لأنّه يعرف، ولو من منطلَق العلوم الزراعية أنْ تفتحَ ورقَ التين يشهدُ لدنوِّ الصيف وليسَ لحلوله وفيه تنضجُ ثِمارُ التين، بعضها في حزيران وبعضها الآخر بدءًا من آب. وهو يقول: من "التينةِ خذوا العِبْرَةَ: فإذا لانَتْ أغصانُها ونبتَتْ أوراقها، علمْتُم أنَّ الصيفَ قريب. (مرقس 13/28، متى 24/32، لوقا 21/ 29)، فإذا كان يدعو تلاميذه إلى أخذ العِبْرة من التينة فهذا يعني تاليًا أنّه يعرفُ حقَّ المعرفة أنَّ التينةَ لم تكنْ في وقتِ نضوجِ الثمرِ ليؤكل.
واستطرادًا من المثلين قد تكونُ التينةُ لا تحملُ ثمرًا ولو فجًّا، فمتى ومرقس نقلا أنّه "لمْ يَجِدْ عليها غيرَ الورق"، وتأتي الصورة في صيغة النفي التوكيدي بأنّها لا تحملُ "غيرَ الورق". لذا لعنها لأنّه طلبَ فيها ثمرًا غير محدّدةٍ مراحلُ نموّه، فلم يجد "غيرَ الورق"، ما يَعني أنَّ التينةَ لا تُثْمر. ونعتقِدْ أنَّ يسوعَ استهدفَ من خلال الحادثة "عظماءَ الكهنةِ والكتَبَة الذينَ "استاؤوا"، قبلَ طلبه ثمر التين مباشرةً، من طردِ يسوع الباعة من الهيكل وشفائه العُميانَ والعُرجَ فيه، ومن هُتاف الأطفال له "هوشعنا لابنِ داود". (متى 21: 12 – 16، مرقس 11/11 و11: 15 – 17، ولوقا 19: 45 – 46 ، ويوحنا 2: 14 – 16). فالكهنة والفريسيون والكتبة هم على غرار شجرةِ التينِ هذه التي يُرى ورقها من بعيد أخضرَ، لكنّها لا تُنتجُ ثمرًا، إنّهم يهتمّون بمظهرهم الخارجي وثيابهم وأناقتهم التي تزيدُ من مكانتهم مهابةً خارجية.
وفي ما عدا ذلكَ نرى يسوعُ الذي غضبَ لدى رؤيته الباعة يحوّلون الهيكل "مغارةً للصوص"، هو مثالُ المحبّة يُمهِلُ الخطأةَ ليتوبوا كما أمهلَ صاحبُ الكرمِ شجرةَ التين لتُثمرَ. فالمشهدُ في اللوحةِ الثانية للتينةِ يختلفُ عنه في الأولى. هنا التينةُ لمْ تباشر الإثمارَ بعد. فوقتُ مباشرتها الإثْمار يبدأ من السنةِ الخامسة لغرسها، والرجل يزورها منذ ثلاث سنوات. ويُشبهُ هذا الإمهالِ هنا ما يُعطى من فُرَصٍ لإنجاحِ مشروعٍ لمْ يحقّق أرباحًا بعد، أو إنسانٍ تكاسلَ أو لم يجد فرصةً ليُنتج. يقولُ يسوع: "كانَ لرجلٍ تينةٌ مغروسةٌ في كرمه، فجاء يطلُبُ ثمَرًا عليها فلمْ يجدْ. فقال للكرّام: إنّي آتي منذُ ثلاثِ سنواتِ إلى التينة هذه أطلبُ ثمرًا عليها فلا أجد، فاقطعها! لماذا تُعطّلُ الأرض؟ فأجابه: سيّدي، دعْها هذه السنة أيضًا، حتّى أقلبَ من حولها وأُلْقي سمادًا، فلرُبّما تُثمرُ في العام المقبل، وإلا فتقطعُها" (لوقا 12: 6 – 9). وحتمًا هنا يغمِزُ يسوع من اليهود الذين لم يسمعوا كلمته، فهم يعطّلون رسالته "الأرض".
وفي مطلقِ الأحوال فالتينةُ "تُشبّهُ بشجرةِ معرفةِ الخيرِ والشر" في أدب الربانيين (الكتاب المقدّس العهد الجديد ص 293 – هامش)، وكانَ يسوعُ رأى نتنائيل تحتَ التينة قبل أن يدعوه فيليبُّس ليتعرّف إلى يسوع ( يوحنا 1/48).
أنا الكرمة، أنتمْ الأغصان، ومنْ لا يُثمر يلقَ في النار
يوردُ معجم اللاهوت الكتابي (ص 660) "قلّما نجدُ في النباتات ما يكونُ مرتبطًا في الوقتِ ذاته بمهارةِ الإنسان وبانتظامِ الفصولِ مثلَ الكرمة". وهي في العهدِ الجديد حلّت في مَثلِ عمّال الكرم (متى 20: 1 -16)، وفي مثل العمّال القتلة (متى 21: 33 – 41)، والاهتمامُ بالعنبِ ألْهَمَ صورةَ الخمرةِ الجديدة التي توضعُ في زقاقٍ جديدة (متى 9/17). لكنّ هذه الأمثلة وغيرها لم ترتكز على اقتصادٍ زراعي، بل الهدفُ منها مسائل اقتصادية أخرى جرى بحثُها، تمهيدًا لعرضِ أمورٍ روحية تتعلّقُ بملكوت السموات. حتى في مثلِ الابنين الذي ساقه متى أيضًا (21/28)، كانَ في إطارِ العملِ في الكرم، حيثُ الذي رفض طلبَ أبيه بالكلام عاد وذهب إلى الكرم يعمل، بخلافِ أخيه الذي تجاوبَ مع طلبِ أبيه بالكلام ومن ثمَّ تقاعسَ عن العمل في الكرم. وقد تكونُ كثرةُ الكرومِ في فلسطين وهي "أرضُ كرومٍ" (كتاب اللاهوت الأدبي)، أوحتْ بهذه الأمثال التي يُرادُ بها الحديث عن خلاص النفس في الآخرة.
لكنَّ هذه الكروم، التي اعتُبِرت مصدرَ رزقٍ وفرحٍ للإنسانِ منذ أن "زرعَ نوحُ البار كرمةً على الأرض بعدَ أنْ وعدَ الله بعدمِ لعنها" (تكوين 8/21)، ليستْ الكرمة الحقيقية. بل ينقلُ يوحنا عن يسوع قوله: " أنا الكرمةُ الحقُّ وأبي الكرّام، كلُّ غُصنٍ فيَّ لا يُثمرُ يفصَله. وكلُّ غُصنٍ يُثمرُ يُقَضّبُهُ ليَكثُرَ ثمرُه.(15: 1 -2) ويُضيفُ: "أنا الكرمةُ وأنتم الأغصان، فمَنْ ثبت فيَّ وثبّتُّ أنا فيه فذاكَ الذي يُثمرُ ثمرًا كثيرًا.... من لا يَثبُتْ فيَّ يُلقَ كالغصنِ إلى الخارج فييبس فيجمعونَ الأغصانَ ويُلقونها في النار فتشتعل". (15/5)
وتتجلّى في كلامِ يسوع الحاملِ تهديدًا لمنْ لا يسمع كلمةَ الله ويعملْ بها، معرفتهُ في شؤون زرعِ الكرمة. فالكرّام الذي يعرف كيف يزيد ثِمار كرمه هو الذي يعرفُ كيفّ "يُقضِّبُ الأغصانَ المثمرة" لتزيدَ ثمرًا في الموسم المقبل. ويعرفُ في موسمِ التشحيل، وبعد جني المحاصيل والثمار كلّها أن يميّز بين الغصنِ الذي يَعِدُ بالثمار والذي لا يَعدُ بها، فيقطع الأخير ويرميه، أو يستخدمه على الأرجح وقودًا للنار. فيُتيح للأغصان الواعدة مزيدًا من العناية والخصبِ والثمار.
ويُحوّلُ العِنبُ إلى ثِمارٍ مجفّفةٍ ذاتِ سعراتٍ حرارية مرتفعة تؤكلُ شتاءً، أو يُصنّعُ منه الدبسُ والخمرُ الذي يُستعمل أيضًا في مداواة الجروح كما في مثل "السامري" (لوقا 10: 30 – 37) حيثُ صبَّ السامريُّ على جروحِ الرجلِ الذي ضربه اللصوص "زيتًا وخمرًا"، فالأول لتخفيف الألم والثاني لتطهير الجروح. ويذكرُ مرقس أنّه قُدِّمَ إلى يسوع "خمرٌ ممزوجٌ بالمرّ" وهو على الصليب فلم يتناولْه (مرقس 15/23، متى 27/34)، بحيثُ يتحوّل إلى مخدّر (المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشرق القديم – ص 876)، وفي شرح إنجيلِ متى أنّه "إذا أوشكَ إنسانٌ أنْ يُعدمَ، جازَ له أن يتناول حبّةَ بخورٍ في كأسِ خمرٍ ليفقدَ وعيه ... وكانت كرائمُ النساء في أورشليم يقُمْنَ بالمهمّة" (مقالة يهودية في مجلس اليهود 43 – نقلاً عن شروح الكتاب المقدس - العهد الجديد ص 115).
وبدأ يسوعُ أولى آياته بمعجزة تحويل الماء إلى خمر في عرسِ قانا الجليل (يوحنا 2: 1 – 12).
الفصلُ الثاني
تربية الماشية وصيد الأسماك
الراعي والخراف، الأجراء واللصوص
أعلنَ يسوع نفسه أنّه "الراعي الصالح"، وكانَ يُكنِّى بذلك عن رعايتِه المؤمنين به بعد أنْ شبّههم بالخراف، وقابل يسوعُ علاقته مع تلاميذه بمثلِ علاقة الراعي مع خرافه (متى 26/31). ويسوق يوحنّا في الفصل العاشر كلّه مهمّات الراعي الصالح التي أعلن عنها يسوع، وهي تتشابهُ في كثيرٍ من مراحلها مع مهمّات رعيان الماشية المعاصرين له في فلسطين.
يكتب "المرشد إلى الكتاب المقدّس في صفحة 93: "كانت الرعاية من الأعمال الأساسية. وكان على الراعي أن يقودَ قطيعه إلى المراعي ويهتمَّ به، ما يتطلَّبُ التنقلَ والتجوالَ الدائم، بخاصةٍ في فصل الصيف الحارّ. وكلَّ مساءٍ يعدُّ الراعي خراف قطيعه ويُدخله الحظيرة وينامُ عند المدخل جاعلاً من نفسه "باب الخِراف". كان على الراعي أن يبقى متيقّظًا خشيةَ أن تعتدي وحوشُ البريّة الآتية من وعرِ وادي الأردن. وتتألّفُ القطعان من خليط الضأن والماعز. ويتقدّمُ الراعي الخرافَ فيما يسوقُ الماعزَ أمامه". وتُشكّل الماشية ثروةً اقتصادية لما تؤمّنه من ألبانٍ ومشتقاتها ومن لحومٍ وأصواف لنسج الألبسة وحياكتها، أو لاستخدام فرائها في اللِباس وكسوةِ البيوت أو لاستخراج الجلود ودبغها، وكانت الدباغة معروفة.
وفي كلامِ يسوع تأكيدٌ لهذا الاهتمام من الرعيان، لأنّهم أصحابُ القطيع: "منْ لا يدخلُ حظيرةَ الخِرافِ من الباب، بلْ يتسلّقُ إليها منْ مكانٍ آخر فهوَ لصٌّ سارق. ومن يدخلُ من الباب فهو راعي الخراف. لهُ يَفتحُ البوّابُ والخِرافُ إلى صوته تُصغي. يدعو خرافه كلَّ واحدٍ باسمه ويُخرجها فإذا أخرجَ خِرافه جميعًا سارَ قدّامها وهي تتبعُهُ لأنها تعرفُ صوته. أمّا الغريب فلن تتبعَه بلْ تهرُبُ منه لأنها لا تعرفُ صوتَ الغُرباء.
ويُميّز يسوعُ نفسه عن الرعاة الذين يستأجرهم أصحابُ القطعان الكبرى، أو أبنائهم وبناتهم وأصهرتهم أو أقاربهم. فهو "الراعي الصالح الذي يبذِلُ نفسهُ في سبيلِ الخِراف، وأمّا الأجيرُ وهو ليسَ براعٍ وليسَتْ الخِرافُ له، فإذا رأى الذئْبَ آتيًا تركَ الخرافَ وهربَ، فيخْطِفُ الذئْبُ الخِرافَ ويُبَدِّدها، وذلك لأنّهُ أجيرٌ لا يُبالي بالخِراف". (يوحنا 10: 11 – 13)
ونرى في حياةِ يسوع مقاربتين مع "الرعاة"، الذينَ يهتمون بشؤون الرعية والشعوب وهذا ما هدف إليه أنبياءُ العهد القديم (معجم اللاهوت الكتابي ص 366 -1)، والذينَ يهتمّون بتربية الأبقار والأغنام والماعز وغيرها. "ويبدو أنّ يسوعَ أراد أنْ يضعَ الرعاةَ في صفوف "الصغار" مثل العشّارين والبغايا، فسُمْعَتُهم لم تكن في ذلك الزمان حسنةً، لأنّهم كانوا يعيشون على هامش جماعة العاملين بأحكامِ الشريعة. إنّهم من الوضعاء الفقراء( الكتاب المقدس – العهد الجديد – 194 – هامش 11)، لكنّهم قَبلوا بطيبةِ خاطرٍ، البِشارةَ السارّة "، (معجم اللاهوت الأدبي ص 366 – العهد الجديد) فجاؤوا مسرعين "ولمّا رأوا ذلكَ جعلوا يُخبرون بما قيلَ لهم"(لوقا 2: 8 – 20). ويُرجّح معجم اللاهوت الأدبي أن يكونَ يسوع وُلِد في حظيرةِ رعاةِ بيت لحم الذينَ رحبّوا به.
جعلَ يسوع المتواضعين يرتفعون كما أوردت مريم العذراء في نشيدها: "حطَّ الأقوياءَ عن العروش ورفعَ المتواضعين" (لوقا 1/52). وباتَ هو شخصيًا الراعي الصالح، يبحثُ عن الخروف الضال ويدافع عن القطيع ضدّ الوحوش والذئاب ويبذل نفسه عن الخراف (متى 18: 12 – 14)، التي تعرفُ صوته، فيضعها إلى يمينه يوم الدينونة، بخلاف الماعز، وعلى رُغمِ فائدتها الاقتصادية، إلا انّها تعصى أوامر الراعي، فيسيّرها أمامه لتبقى تحتَ رقابته وتصير إلى يسار الله الآب تمثّلُ الخطأة غير التائبين.
صيد الأسماك، سأجعلكم صيادين للبشر
وأرادَ يسوعُ أن يتضاعفَ حضوره وأن ينشرَ رسالته بواسطة رجالٍ آخرين يكونون في مستوى هذه الرسالة، فاختار تلاميذه الأربع الأُوَل من صيادي الأسماك. يروي متى أنَّ يسوع كانَ سائرًا على شاطئ بحر الجليل، "فرأى أخوين هما سمعان الذي يُقال له بطرس وأندراوس أخوه يُلقيان الشبكة في البحر، لأنهما كانا صيّادين. فقال لهما: اتبعاني أجْعلُكما صيّادي بشر (*). فتركا الشّباكَ منذُ ذلكَ الحين وتبعاه. ثمَّ مضى في طريقه فرأى أخوين آخرين، هما يعقوبُ بنُ زبدى ويوحنّا أخوه، مع أبيهما في السفينة يُصلحانِ شِباكَهما، فدعاهما فتركا السفينة وأباهما من ذلك الحين، وتبعاه" (متى 4: 18 – 22)، مرقس 1: 16 – 19). في حين يوردُ لوقا اختيار الرسل الأربع الأول بعد معجزة صيد الأسماك بما ملأ سفينة بطرس وأخوه وسفينة ابني زبدا. فبعدَ أن أنهى يسوع مخاطبةَ الجموعِ من سفينةِ بطرس التي صعد إليها، تفاديًا للازدحام على شاطئ بحيرة جنّاسرِت، حيثُ تدافعت الجموع لتسمع كلمته وتراه، وتشفي مرضاها بلمسةٍ أو كلمةٍ منه، طلبَ من بطرس أنْ يُلقي الشّباك في البحرِ بعد ليلٍ لمْ يُصب الصيّادون فيه سمكًا على رُغمِ ما بذلوا منْ جهدٍ، وبعدما كانَوا قد غسلوا الشّباك. ولكن أجاب بطرس يسوع: "بناءً على قولِكَ أُرْسِلُ الشِّباك. وفعلوا فأصابوا من السمكِ شيئًا كثيرًا جدًّا، وكادتْ شِباكُهم تتمزّق. فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى أنْ يأتوا ويعاونوهم. فأتوا وملأوا كلتا السفينتين حتى كادتا تغرقان" (لوقا 5: 4 – 7 ).
وعلى رغم أنّ المعجزة أظهرت لبطرس قوّةَ يسوع الإلهية، التي على أساسها تبعَ يسوع ليصيرَ صيّادًا للبشر مع شركائه (لوقا 5/10)، فإنّ حصيلة الصيد لمْ تكن فقط لتلبية حاجة مأكلِ فردٍ أو عائلة، بل لبيعها بهدف تأمين المعيشة اليومية. فمهنة بطرس ورفاقه كانت صيد الأسماك، مثلَ كثيرين من معارفهم وأبناء بلداتهم المتجاورة في الجليل. وكانت التجارة بالأسماك تتعدّى حدود المناطق. فكان الفينيقيون يبيعون في أورشليم سَمَكًا اصطادوه من البحر المتوسط الذي اشتهرَ بسمكه الكثير. وسُمّي أحد أبواب المدينة باب السمك، ما يدلُّ على أهميّة الاتجار به. (المحيط الجامع ص 672).
وتحدّثَ العهد الجديد مرارًا عن الصيد والسمك (متى 4: 18 – 20، لوقا 24/42، ويوحنا 21: 13 – 14)، وذلكَ في إطار بحيرة جنّاسرت الشهيرة بسمكها. كانوا يملّحون السمك في تاريخيس قرب الشاطئ، ويأكلون العسلَ مع السمك المشوي.
ويذكُرُ الإنجيلُ طريقتين لاصطياد الأسماك: الشّباك للصيد بكثرة، والشّص أي الصنّارة للاصطياد الفردي، ففي متّى قال يسوع لبطرس: "فاذهب إلى البحرِ وأَلْقِ الشّصَّ وأمْسِكْ أوّلَ سمكةٍ تخرجُ وافتحْ فاها تجدْ إسْتارًا (4 دراهم)، فخذه وأدّهِ لهمْ عنّي وعنك" (متى 17/27).
وقد لا يكونُ لوقا ذكَرَ وجودَ سفينتين راسيتين عند الشاطئ، تخصّان أربع شركاء عَرَضًا (5/2)، فصيدُ السمك بالشباك كانَ يتطلّبُ شركةً بينَ سفينتين وأصحابهما."فالوسيلةُ الأكثرُ اتِّباعًا في الصيد كانتْ شبكة تُدلَّى عموديًّا في الماء، وفي أطرافها السفليه مُثْقِلانِ من الرصاص وفي أطرافها العلويّة فلّينٌ بينَ قاربين يدورانِ في الماء ويحجزان السمك داخل الشبكة في وسطِ البحيرة، أو يتجهان إلى الشاطئ لحصر السمك في المياه الضحلة. ويُباعُ السمكُ بعدَ الصيد مباشرةُ أو يُملَحُ (المرشد إلى الكتاب المقدّس – ص 92).
(*) يوردُ يوحنا روايةً مختلفة عن متّى، لافتًا إلى أن اندراوس أخا بطرس كانَ من تلاميذ يوحنا المعمدان، وكان يُرافقه مع تلميذٍ آخر عندما حدّق يوحنا إلى يسوع وهو سائرٌ فقال لهما: " هوذا حملُ الله" فتبعا يسوع. و"لقي إندراوس أولاً أخاه سمعان فقال له: وجدنا المشيح ومعناه المسيح. وجاء به إلى يسوع فحدّقَ إليه يسوع وقال: أنتَ سمعان بن يونا، وستُدعى كيفا، أي صخرًا" (يوحنا 1: 41 – 42).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق