الأحد، 20 نوفمبر 2011

الإقتصاد في الإنجيل - القسم الأول - النشاطات الاقتصادية (قسم ثاني) تابع


الفصل الرابع
توزيع الثروات
وتقاسم الخيرات وتذكر الفقراء

الويلُ لكم أيها الأغنياء،
 يَعسرُ أن  تدخلوا ملكوت السموات

تبنّى الإنجيل، التحفظّات التي وردت في العهد القديم تجاه الغِنى والثراء، لا بل اتخّذ طابع القسوة(1)، "الويلُ لكم أيّها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم" (لوقا 6:  24) وهي آية تتسمُ بلهجة إدانة مطلقة. ويستمرُّ الموقف من الغِنى والثراء شديدًا، كما هو تجاه عبادة المال. فالعبادة تعني تكديس الثروات تحصينًا من العوز أو من النهاية أي الموت. لكن الإنجيل يعلن الشركة الكاملة منذ موعظة الجبل في التطويبات واللعنات، إلى تحذير يسوع بقوله: "الحق أقول لكم: يعسرُ أن يدخل الغنيُّ ملكوت السموات. وأقول لكم:  لأن يمرّ الجملُ من ثقب الإبرة أيسرُ من أن يدخل الغني ملكوت الله"  (متى 19: 23-24). وفي شرح الآية  "الغنيّ"،  هذا ما يعلّمه الإنجيلُ في "الأموال"، حتّى في الحلال منها:
1-          حذّر يسوع الناس من عقبة الأموال لمن أراد "دخول الحياة الأبدية".
2-          لم يجعل التجرّد من الأموال قاعدة تُلزم جميع الذين اتبعوه، خلافًا للأسينيّين في قمران. فقد كانوا يفرضونه على مبتدئيهم لفائدة الجماعة.
3-          أحب يسوع ودعا أناسًا أغنياء كانت لهم مكانة اجتماعية رفيعة، ولم يُلزمهم بالتخلّي عن مقامهم (2). فالذي استقبل جسد يسوع في مقبرته كان أحد الأغنياء الملاّك في الرامة (متى 27/ 57).
4 - لا يطلبُ الإنجيلُ إذاً أن يتخلّى المرءُ عن ثروته، كثقلٍ عائقٍ، بل أن يتمُ توزيعها على الفقراء ( متى 19/ 21، لوقا 12/ 33 و19/ 8).
يُستنتَجُ مِمّا سبق أن الغنيُّ هو مسؤولٌ عن الفقير. تبرزُ هذه المسؤولية في مثل الغني ولعازار الذي ينقله لوقا (16: 19- 31). ففي اللوحة المرسومة في المثل، تَعارُضان بارزان: الغني الذي يلبس الأرجوان والكتّان الناعم، ويتنعم كل يومٍ تنعّمًا فاخرًا. والفقير، الذي اسمه ليعازر، الملقى عند باب الغني، وقد غطّت القروح جسمه، "وكان يشتهي أن يشبع من فتات مائدة الغني". هذا التمايز في اللوحتين صارخٌ لناحية عدم مبالاة الغني بذلك الفقير الذي كان يشتهي فتات مائدته، وبدل أن يحصل عليها، كانت الكلاب، بما يدعو إلى الاشمئزاز، "تأتي فتلحس قروحه". تشبع هي من القروح التي غطّت جسمه قبل أن يحصل هو على الفتات المتساقط.
حتمًا في الآخرة، أي بعد الموت، كان الغنيُّ في مثوى الأموات يقاسي العذاب، لأنه نال خيراته في حياته. فالعقوبة ليست بسبب الغنى، بل بسبب استئثار الغني لوحده بالخيرات
والتنعم من دون أن يُشركَ الفقيرَ بها، أي من دون توزيع جزءٍ من ثروته على المحتاجين. فمن دون العقاب الشديد ومدى تأثيره في النفوس، حيثُ ذلك الغني اشتهى "أن يبلّ لعازر إصبعه ويرطّب لسانه"،  يبقى الأغنياء من دون شفقة، يعبدون المال أي "مامون".  لكن الثروات كلّها لا تستطيع أن تشتري للغني نقطة ماء بعد مماته. بل إن توزيع جزءٍ منها يكون له فعل الخير والثواب على العطاء وإنقاذ المحتاجين.

1 – معجم اللاهوت الكتابي صفحة 591.
2- الكتاب المقدس: إنجيل متى صفحة 91 

 لذا من يريد أن يَحْصلَ على شيء لا بدّ من أن ينفِق جزءًا مما لديه، أو يبيع كلّ شيء. و ينقلُ متّى عن يسوع مثلين عن الكنز واللؤلؤة ( 13: 44- 46)،  فالرجل الذي وجد في الحقلِ كنزًا مدفونًا، عاد ودفنه وذهب فباع جميع ما يملك واشترى ذلك الحقل. والتاجر الذي كان يطلب اللؤلؤ الكريم، ووجد لؤلؤةً ثمينةً، مضى وباع جميع ما يملك واشتراها. لذا من يطلب الخلاص يتنازل عن بُخْله ويُشرك المحتاجين والفقراء في ثروته.

وكانت الدعوةُ إلى اقتسام الثروات سابقة لتعاليم يسوع، هي امتدّت في العهد القديم، لكنّ يوحنَا المعمدان عرض على الجموع التي سألته ما العمل؟ أن يسلكوا سلوكَ الإخاء والبرِّ "من كانَ عنده قميصان فليقسمهما بينه وبين من لا قميصَ له. ومن كان عنده طعام فليعمل كذلك" وطلب إلى الجباة ألا يجبوا أكثرَ مِمّا فُرِضَ لهم، وأن يرضى الجنود برواتبهم (لوقا 3: 10-13). كما حنّ اليونانيون أيضًا إلى بشرٍ موحّدةٍ، يتساوى فيها الناس، يتقاسمون كل ما يملكون، ينعمون معًا بخيرات الأرض، وتكون هذه الخيرات لسعادة البشر والمحافظة على كرامتهم.
من هذا المنطلق عاشت الجماعات المسيحية الأولى. ففي أعمال الرسل يعرض لوقا لوحتين: الأولى عن الحياة الجماعية للمسيحيين بداية نشأتهم، تُشدّد على تقاسم الخيرات كما ورد في أعمال الرسل(2: 44-45) "وكان جميع الذين آمنوا جماعةً واحدةً، يجعلون كلّ شيٍْ مشتركًا في ما بينهم، يبيعون أملاكهم وأموالهم، ويتقاسمون الثمن على قدْرِ احتياجِ كلٍّ منهم". أمّا اللوحة الثانية فامتدّت إلى كذبِ حنانيا وزوجته سفيرة على بطرس الرسول، بعد أن اقتطعا جزءًا من ثمن مُلْكٍ باعاه، فأبقياه لنفسيهما، (5: 1-11) وهو مشهدٌ معاكس لمثالية برنابا الذي باع حقله "وأتى بثمنه فألقاه عند أقدام الرسل" (4: 36-37).  

ركّز لوقا على آمال البشرية التي تحقّقها العلاقات الجديدة في الكنيسة. هذه العلاقات لم تترجم في الدعوات المختلفة السابقة، بل ترجمتها الجماعة المسيحية الأولى. "وكان جماعة الذين آمنوا قلبًا واحدًا ونفسًا واحدةً، لا يقولُ أحدٌ منهم إنه يملكُ شيئًا من أمواله، بل كان كلُّ شيءٍ مشتركًا في ما بينهم، فلم يكن فيهم محتاج لأن كلّ من يملك البيوت والحقول كان يبيعها ويأتي بثمن المبيع فيلقيه عند أقدام الرسل. فيُعطى كلٌّ منهم على قدْرِ حاجته". (4:32-35)



منْ جمعَ كثيراً لم يفضل عنه،
ومنْ جَمَعَ قليلاً لم ينقصه شيء

ثمّ إن المشاركة تتوسّع بين الكنائس، مثل المساعدة التي قدّمتها كنيسة أنطاكية إلى كنيسة أورشليم. يقول لوقا ( أعمال 11: 27-30) : "وفي تلك الأيّام نزل بعضُ الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية. فقامَ أحدهم، واسمه أغابُس، فأخبرَ بوحيٍ من الروح أن ستكون مجاعةٌ شديدة في المعمورِ كلّه، وهي التي حدثت في أيّام قلوديوس (حصلت مجاعة متواصلة، في أنحاء الإمبراطورية الرومانية بين 46 و48 للميلاد. إلاّ أن العلاّمة الأب بولس فغالي يجعلها بين 49 و51 في كلامه عن الكتاب المقدّس – الفصل الثالث عشر – موقع الإنترنت). فعزم التلاميذُ أن يُرسلوا ما تيسّر عندَ كلٍّ منهم، إسعافًا للإخوةِ المقيمين في اليهودية وفعلوا ذلك فأرسلوا معونتهم إلى الشيوخ بأيدي برنابا وشاول". هذه المساعدة الكوزموبولية  شدّد عليها بولس في رسالته إلى أهل قورنتس (الرسالة الثانية – الفصلين الثامن والتاسع)، فذكّرهم بأنهم أول من قام بالعمل: "بل كنتم أول من عزم عليه منذ العام الماضي". وإذ تدرّج بولس بالمنطق الروحي والمنطق المادّي، بلوغًا إلى إقناع المؤمنين، بالتبرع على قدرِ ما عنده: "أما الآن فأتمُّوا العمل ليكون الإتمامُ على قدرِ طاقتكم ووفقًا لشدّة الرغبة، لأنه متى وجدت الرغبة،  لقي المرءُ قَبولاً حسنًا على قَدْرِ ما عنده، لا على قدرِ ما ليس عنده. فليس المرادُ أن يكونَ الآخرون في يُسرٍ وتكونوا أنتم في عسرٍ، بل المرادُ هو المساواة. فإذا سدّت في الوقتِ الحاضرِ سَعَتُكم ما بهم من عوزٍ، سدّت سَعَتُهم عوزَكم في المستقبل، فحصلت المساواة".(قورنتس الثانية 8: 11-14)
هنا يختلف بولس بعض الشيء عن مفاهيم اقتسام الثروة لتحقيق المساواة في الشراكة، فالمساواة لا تتحقق في سدّ عوزِ الآخرين، بل في انتظار أن يسدّ الآخرون عوز المانحين في المستقبل. وربما خشي بولس أن يتقاعس المؤمنون عن التبرع إلى أورشليم، فطمأنهم بأمرين: الأول، العطاء على قدر المستطاع، وليس أكثر مما لدى المرء، والثاني الحاجة المستقبلية لدى الواهبين، إذ يبدو أن كنيسة أورشليم أفقَرَها نظامُ المشاركة بالأموال والمجاعة التي حصلت.
يقول الأب بولس فغالي ( الكتاب المقدس – الفصل الثالث عشر : الرسالتان إلى كورنتوس – الفقرة الثانية) وتحت عنوان:  "اللمّة من أجل كنيسة أورشليم": " ذكّرَ بولسُ في الفصلين 8 و9 الكورنثيين بالتزامهم بهذه اللمّة. تكلّم فشدّد على حياة يسوع، وفسرّها على أنها عمل سخاء وفقر اختياري (9/8)، وأكدّ أن الله يغمر المُعطي بعطاياه (7:9- 11). وتُبرِزُ  هذه البراهين الدينيّة الأهمية التي يعلّقها بولس على هذه اللمّة، على هذا التبرع و(الإحسان) من أجل الفقراء في أورشليم.
وإذ أراد بولس أن تجري الأمور في أحسن حال، اتخذ وسائل غير عادية: أرسل الموفدين (8: 16- 24، 9 : 1- 6). ذهب هو شخصياً إلى أورشليم مع ما في هذا الذهاب من مخاطرة بأن يوقَف ويُعاقَب (روم 15: 30- 33). وهكذا أراد أن يردم الهوّة التي تفصل كنيسة أورشليم عن الكنائس التي أسسَّها في العالم الوثني (9: 13). وأراد أيضاً أن يسدّ عوز المحتاجين، أن يسدّ حاجات (المادية) الأخوة القديسين (9: 12). نحن نعرف أن مجاعة قوية اجتاحت اليهودية سنة 49- 51. ارتفعت الأسعار، وزادت الديون على الناس، وسيطر الفقر والعوز.
لقد عمل بولس ما عمله ليُترجِم في الواقع اليومي المتطلّبات الاجتماعية الموجودة في الإنجيل، وهكذا عادت المساواة: الذي جمع كثيراً لم يفضل عنه. والذي جمع قليلاً لم ينقصه شيء (13:8- 15)".

هامش
في معجم اللاهوت الأدبي أن بولس وسّع معنى الصَدقة، فاعتبر «اللّمة» من اجل الكنائس، «خدمةً» ( كورنتس  الثانية 8: 4، و9: 1 و12- 13) وبمثابة شعائر طقسية، ليتورجيا، وذلك عن طريق جمع تبرّعات عامّة.
وبقيت هذه اللمّة في الكنائس، حيث يتم جمع التبرعات من المصلّين خلال الذبيحة الإلهية، أو تلبيةً لدعوةٍ من أجل المعوزين أو المرضى.
من جهةٍ ثانيةٍ، يقارب الأب بولس فغالي  رسالتي يعقوب ويهوذا، اللذين يتناولان الأغنياء في هذه الجماعة فيقول:
"يهاجم كاتب الرسالة الأغنياء الذين يصرخ ترفهم إلى السماء طالباً العقاب.الجماعة التي يتوّجه إليها "يعقوب" هي جماعة منتظمة، وقد تكون عائشة في مصر أو في أحد المراكز التجارية الكبرى في الشرق الأوسط. ويهاجم يعقوب الأغنياء بكلام قاسٍ ودقيق، وهذا ما يدلّ على ظروف اجتماعية تسيطر فيها اللامساواة داخل الجماعة نفسها. "الغني كزهر العشب يزول" (1: 10؛ رج 2: 13؛ 5: 1-6).يتعاطف الكاتب مع الضعفاء والمستغلين، مع صغار القوم الذين يعرفون شظف العيش. ولكنهم هم أيضاً قد يُسْحرون بالغنى وينجرُّون إلى الفوضى التي تنتج عن هذا الغنى: الحسد، الافتراء، الغضب...في مقابل هذا، هناك أشخاص يلجأون إلى كل الوسائل ليربحوا المال. يستعبدون الآخرين، ويحتفظون بأجر العامل ليزيد غناهم غنىً. يذبحون العجول المسّمنة من أجل ولائمهم، وكل هذا على عيون الفقراء الذين يسحقهم الأغنياء (5: 5).هذه الانتقادات القاسية ضد الأغنياء، تصيب إلى حدّ كبير وجهاء من أصل يهودي. هؤلاء التجّار الذين لم يقطعوا بعد كل علاقة بعاداتهم القديمة، يلقون البلبلة لا الجماعة. لهذا يجعل يعقوب كلامه كصدى للكرازة في المجمع، فيذكرهم بتقليد العهد القديم: ايليا، الأنبياء الذين تعذّبوا فصبروا، أيوب ...


الفصلُ الخامس
تبذير الأموال

وعرفَ خطأه وبُعدَه عن الصواب،

لمْ يتحدّثْ يسوع عن تبديد الأموال في شكلٍ مباشر، بل أوردَ الإنجيليون لوحاتٍ حول الموضوع، بما يُفيدُ أنّه مذموم.
يتحدّثُ يسوعُ في مَثَلِ الابنِ الضال، عن الأخير الذي "بدّدَ أمواله هناك (بلدٍ بعيدٍ)، في عيشةِ إسراف" (لوقا 15/11). وكانت النصوصُ الأولى لإنجيل لوقا، قبلَ توحيد ترجمة النصوص، تفصّلُ مجالات الإنفاق وهي مجالات ملذّاتٍ متنوّعة.
كذلكَ لمْ يدنْ أحدٌ الإنفاقَ علنًا ومباشرةً، على اعتبار أن "الإبنَ الأصغر" خالفَ الشرائع والوصايا وحتى القوانين، بطلبه إلى أبيه أن يعطيَه نصيبه ممّا يعودُ له من "المال". وعرفَ خطأه وبُعدَه عن الصواب عندما "كانَ يشتهي أن يملأ بطنه منَ الخرنوب الذي كانتْ الخنازير تأكلهُ، فلا يُعطيه أحدٌ"، (لوقا 15/16). ويُشيرُ رعْيه للخنازير إلى منتهى الذلَّ لأن الخنزيرَ حيوانٌ نجس، وطلبهُ للخرنوبِ إلى طعمِ المرارة الذي يعقب الحلاوة. وتفيدُ عبارةُ لوقا: "فرجِعَ إلى نفسه" (17)، إلى أنّهُ كانَ تركها وباتَ غريبًا عنها. فحسد الأجراءَ الذين يعملون عند أبيه، لأنَّ الخبزَ يَفْضلُ عنهم.
وباتَتْ المعادلةُ بين الإنفاق وتبديد المال، العودةُ إلى أبيه والاعترافُ له بارتكابِ الخطأ تجاهه: "أقومُ وأمضي إلى أبي وأقولُ له: أبَتِ إنّي خطئْتُ إلى السماء وإليك" (18). بحيثُ يشملُ في إقراره بالخطأ: طلبهُ نصيبه من المال، وتبديده هذا المالِ في غيرِ محلّه، فهو لم يستثمره بل أنفقه على ملذّاته. والأمران مذمومان ومرفوضان اجتماعيًا وأخلاقيًا.

الإسراف في الإنفاق على الطيب

في مشهدٍ آخر قَبِلَ يسوعُ أنْ يُهرَقَ الطيبُ على قدميه عندما نزِلَ ضيفًا على سمعان ولمْ يعتبر الأمرَ إسرافًا ولا تَبْذيرًا، كما يروي الإنجليون: "وكانَ يسوعُ في بيتِ عنيا عندَ سمعان الأبرص، فدنَتْ منه امرأةٌ ومعها قارورةُ طيبٍ غالي الثمن، فأفاضتهُ على رأسه وهو على الطعام،  فلمّا رأى التلاميذُ ذلك، استاؤوا فقالوا: لِمَ هذا الإسراف؟ فقدْ كانَ يُمكن أنْ يُباعَ غاليًا فيُعطى الفقراءُ ثمنه" ( متى 26: 6 – 9 - مرقس 14: 3 – 9، ويوحنا 12: 1 - 8). ويذكرُ مرقس نوع الطيب وهو "الناردين الخالص الثمين" وكانَ يُمكن أن يُباعَ بـ"أكثر من ثلاثماية دينار فتُعطى للفقراء".
أمّا رواية يوحنّا فتختلف في الشكلِ وتتوافق في المضمون مع روايتي متّى ومرقس.  يوضح يوحنّا أن بيت عنيا هي القرية التي أقام فيها يسوعُ لَعازرَ من بين الأموات. فأُقيمَ ليسوع عشاءٌ كانت مرتا أختُ لعازر تخدم، وكان الأخير "في جُملة الذين معه على الطعام". "فتناولتْ مَرْيم حُقّةَ طيبٍ من الناردين الخالص الغالي الثمن، ودهنَت قدمي يسوع ثمَّ مسحتهما بشعرها فعبقَ البيتُ بالطيب".
ويتوافق يوحنا في روايته، مع رواية لوقا، وفيها أنَّ أحدَ الفريسيين دعاه (يسوع) إلى الطعام عنده، فدخلَ بيت الفرّيسي وجلسَ إلى المائدة. وإذا بامرأةٍ خاطئة كانت في المدينة، علمت أنّه في بيت الفرّيسي، فجاءت ومعها قارورةُ طيبٍ، ووقفت من خلف عند رجليه وهي تبكي، وجعلت تبل قدميه بالدموع، وتمسحهما بشعرِ رأسها، وتقبّل قدميه وتمسحهما بالطيب" (لوقا 7: 36-38)، وكانَ اسمُ الفريّسي سمعان. والحادثة قبل صلب يسوع بكثير.
وخالفَ يوحنا روايتي متّى ومرقس اللذين أكدا أن التلاميذ أو بعضهم تذمّروا من "هذا الإسراف"،  بخاصةٍ أنً ثمن الطيب يتجاوز ثلاثماية دينار، أو ما يوازي أجرة ثلاثماية يوم عمل في الزراعة يعني سنة مع احتساب أيام البطالة الأسبوعية والسنوية. فحصر فعل التذمّر بيهوذا الاسخريوطي، أحدِ التلاميذ، وهو الذي أوشكَ أنْ يُسلّمه، فقال: "لماذا لمْ يُبع هذا الطيب بثلاثماية دينار ويُعطى للفقراء؟" ويعتبر يوحنّا أنّه ما قالَ ذلك "لاهتمامه بالفقراء، بل لأنّه كانَ سارقًا وكانَ صندوق الدراهِمِ عنده، فيختلسُ ما يُلقى فيه".
وعلى رغم اختلافٍ في الروايات، وشبهةٍ وظنٍّ، فإنَّ الغاية تلفتُ إلى أن التلاميذ أيضًا يذمّون الإسراف، ويهتمّون لأمرِ الفقراء كما علمّهم يسوع نفسه. أمّا التبريرُ الوحيد لقبول هذا الإسراف أنَّ "هذا الطيبَ حُفِظَ ليوم دفنِ يسوع"، وكانت الحادثة سبقت صلبه بستة أيام.
ولدى يوحنّا، ما غفِلَ عنه الآخرون، أي أن "يهوذا الاسخريوطي كانَ سارقًا، يختلسُ ما يُلقى في صندوق الدراهم المؤتمن عليه". ولم يرد في الأناجيل مثل هذا الاتهام، أو أي لفتةٍ من يسوع تجاهه لأمر الاختلاس.
لكنّ يهوذا أيضًا، أساء سوء استخدام المال، بقبضه ثلاثين من الفضّة لتسليم يسوع.
ومهما كانَ موقفُ تلاميذِ يسوع من أمْرِ هذا الطيب، بينَ ثمنه الذي يقارب أجرَ عاملٍ عادي لنحو سنةِ عمل، وبينَ الفُقراء، من دونِ أنْ يشكُّوا في دنو صلبِ يسوع وموته، فإنّهم ما كانوا ليتذمّروا لولا أنّ الطيبَ كانَ رخيصًا قليلَ الثمن، فقد أصرَّ مرقس على أن يحدّد هذا الثمن بثلاثماية دينار، وبعضهم قدّره بخمسماية من الدنانير، ليُظهِرَ كمْ هو ثمينٌ ويليقُ بالضيفِ (كما نرى لاحقًا)، بحيثُ أنَّ ثمنه أكبر من قدرة الناس العاديين.
وكانَ العطرُ يُعدُّ ضروريًا للحياةِ ضرورةَ الأكلِ والشُربِ، كما يسوقُ "معجمُ اللاهوتُ الكتابي – صفحة 552"، على أنَّ لهُ معنىً مزدوجًا، فيدُلُّ على الفرح في الحياةِ الاجتماعية، وإلى التقدمة والتسبيح في الحياة الليتورجية، وهو مقصدُ الرواية هنا، عندما أوشكَ يسوعُ أنْ يصيرَ هو التقدمة الإلهية.














الفصلُ السادس
الصدقـــة

لا يُنْفخُ أمامكَ بالبوقِ كما يفعلُ المراءون

يوجد التصاقٌ قويّ بين تقاسم الثروات والمال، وبين الصدقة التي يدعو إليها يسوع. فتقاسمُ الثروات هو عمل جماعي أو فردي، لكنّه اتخذ منذُ بداية الكنيسة ولغاية اليوم، عمل الشركة الجماعية. أما الصدقة فتقوم بين اثنين، قد لا تكون شركة متساوية، بالتنازل عن المال والثروات ووضعه أمام الجماعة ليتم اقتسامه، بل هي شركة بين واهبٍ وموهوب، بين مُعطي ومُعطى له.
 يدعو يسوع إلى الصدقة، ويعدّها مع الصوم والصلاة، واحدةً من أعمدة الحياة الدينية الثلاثة، ( الواردة في الفصل السادس من متى بين الآية الأولى والآية 18). فيوصي يسوع بالصدقة  ويطلبُ بأن تُصنع بتجرّد ودونما تباهٍ، " فإذا تصدّقتَ فلا يُنفَخ أمامَك في البوق، كما يفعل المراءون، في المجامع والشوارع ليُعظِّم الناسُ شأْنَهم. الحقّ أقولُ لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أما أنتَ، فإذا تصدّقتَ، فلا تعلم شَمالُك ما تفعل يمينُكَ، لتكون صدقتُكَ في الخِفية، وأبوك الذي يرى في الخِفيةِ يجازيك" (متى 6 2-4). والواقع أن الدعوة إلى صنع الصدقة بتجرّد، تهدفُ إلى أمرين:
1-          مراعاة شعور من يتلقّى الصدقة، فلا يُشارُ إليه على أنّه فقيرٌ أو محتاج، أي أنّه فردٌ غيرُ منتجٍ في المجتمع، وتاليًا لا يستحق الاحترام. وفي الإشارة تشهيرٌ غيرُ مستحب وغير إنساني، فيفقدُ عملُ البرِّ مكانتَه. فسدُّ عوز الجسد المادّي لا يوازي إحداثَ الجرح النفسي والألم الداخلي.
2-          لا يتطلب عمل الخير، أو العطاء أجرًا من الناس فتسقط قيمته ويبقى في مكانه. فالأجر الكبير هو الأجر الروحي من الله الذي يرى كل الأعمال، حتى تلك التي تصنع في الخفية، فلا يضيعُ أجرٌ أو ثواب، ويكون أجرًا روحيًا مستمرًّا.

لذا فإن ممارسة الصدقة، لا تنحصر بالمؤمنين فقط، بل ومع الغرباء، فهي جزءٌ تعبيريٌّ عن المحبة. فإذا أنت أحببت من أحبّك فأي فضلٍ لك ؟ بل أحبِبْ عدوّك. يورد معجم اللاهوت الأدبي (صفحة 471)، عن ممارسة الصدقة، أن المؤمنين ينظرون إليها بإعجاب، "لا سيّما عندما تُمارَس مع الغرباء الذين يخافون الله، فيظهرون على هذا النحو، تعاطُفَهم مع الإيمان".

وفي رسالة بولس إلى أهل روما دعوةٌ صريحة إلى "ضيافة الغرباء" (12: 13) وإلى إطعامِ العدوِّ " إذا جاع عدوّك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه، لأنك في عملك هذا ترْكم على هامته جمرًا متقّدًا". (12:20)

فيجبُ أن يتمَّ عمل الصدقة إذًا في الخفية، فلا يعرف به أحدٌ غيرُ الله، أما عمل الشركة المالية بهدف المساعدة وتحقيق المساواة الجماعية فهو علني، ربما ليقتدي الناسُ بأمثالهم فيتوسع إطارُ المشاركة وترسخُ قواعدُ المساواة.

استمرارية عمل الصدقة

ويحثُّ يسوع على عملِ الصَدَقَة في استمرار، وهذا ما يلفِتُ إليه لوقا مرارًا، بدءًا من دعوة يوحنّا إلى اقتسام القميصين والطعام (لوقا 3: 11)، إلى دعوةِ يسوع المؤمنين( لوقا 12: 33)، "أن بيعوا أموالكم وتصدّقوا بها واجعلوا لكم أكياسًا لا تبلى، وكنزًا في السموات لا ينفد، حيثُ لا سارق يدنو ولا سوس يُفسِدُ".

وفي تقريعه الفرّيسيين  الذين يغسلون الخارج وينظّفونه ولا يهتمّون بباطن الشريعة، ينقلُ لوقا عن يسوع (11: 40-41)، تعنيفِه لهم بتوصيفهم أغبياء، سائلاً إيّاهم: "أليس الذي صنع الظاهر صنع الباطن أيضًا؟" داعيًا إيّاهم إلى أن "يتصدّقوا بما يكون كلُّ شيءٍ لهم طاهرًا".

ويتبيّن أن موضوع الصدقة، العزيز بنوعٍ خاص على لوقا، تستمر الدعوة له. هذه الدعوّة يوجّهها يسوع إلى الفريّسيين الذين يهتمّون بالظاهر الخارجي ليَعْظُمَ شَأُنُهم أمام الناس. فإذ لبّى يسوع دعوةً لأحد رؤساء الفريسّيين ليتناول الطعام، فلأنّه شاء أن يلفتَ اهتمام ذلك الفريسّي المتقدم، إلى إطعامِ الفقراء. فيقولُ له :"إذا صنَعت غداءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءَك ولا إخوتك ولا أقرباءَك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضًا فتنال المكافأة على صنيعك. ولكن إذا أقمتَ مأدبةً فادعُ الفقراء والكسحان والعرجان والعميان فطوبى لك إذ ذاك لأنهم ليس في إمكانهم أن يكافئوك فتكافأ في قيامة الأبرار (لوقا 14: 10 – 14)".

فالجلوس إلى الطعام يوحي "بالدعوة". ويسوع ينتهز هذه الفرصة السانحة للدعوة إلى السخاء في إعطاء الفقراء والنزاهة في عمل الخير. وتُعارضُ نصيحته جميعَ العاداتِ المألوفة. ويمثّل البؤساء المذكورون هنا مختلف فئات الفقراء.( الكتاب المقدّس – العهد الجديد حاشية إنجيل لوقا صفحة 244) »

وبهذه النصيحة يمتدح يسوع الصدَقة ويوصفّها بالأجر الذي لا يضيع، وهو أجرٌ يوازي قيمة الصدقة بحسب متّى (6: 2 – 4) حيثُ يقول يسوع: "من قَبِلَكم قَبِلَني أنا، ومن قبلني قَبِلَ الذي أرسلني، من قبل نبيًّا لأنه نبي فأَجْرَ نبيٍّ ينال، ومن قبل صدّيقًا لأنه صدّيق فأجرَ صدّيقٍ ينال ومن سقى أحدَ هؤلاء الصغار، ولو كأس ماءٍ باردٍ لأنه تلميذ، فالحقّ أقول لكم عن أجره لن يضيع".

ويقول معجم اللاهوت الكتابي، (ص 471) «لا يمكن الاكتفاء بالوصول إلى مقياس قيمي مقنّن، مهما كان مرتفعًا: يبدو أن يوحنّا المعمدان يستبدل بالعُشْر التقليدي مقاسمةً بالنصف (لوقا 3: 11) ينفّذها زكّا بالفعل (لوقا 19: 8)، أما ما ينتظره يسوع من أتباعه، فهو ألاّ يلبثوا صمًّا لأي نداء (متّى 5: 42). لأن الفقراء هم معنا في كلّ حين (متى 26: 11). وإن لم يكن لديهم  (أي الأتباع) ما يقدّمونه ( بحسب الحياة المشتركة الواردة في أعمال الرسل 2: 44-45)، فيبقى عليهم أن يُشركوا الآخرين بما عندهم من عطايا وأن يعملوا لكي يستطيعوا أن يساعدوا المعوزين (أفسس 4: 28) ».
و"من الطرق الأساسية للعطاء المادي هو العشور، أي إعطاء عشر الدخل ومن خلال المثال المُعاش والوصية المباشرة. كان إعطاء العشور طبيعياً لمن يعبد الله في العهد القديم. إذ تؤخذ العشور من الأموال النقدية وغير النقدية، من بِكْرِ الغلات الزراعية ومن نتاج الحيوانات وتُعطى إلى مستحقيها من فقراء ومساكين. حتى أن العشور كانت قبل الشريعة (تكوين ١٤:٢٠) وأوضح يسوع  أن العشور يجب أن تراعى من دون إهمال (متى: ٢٣/٢٣). بحيثُ تعد العشور مصدراً اقتصادياً لمساعدة الفقراء والمساكين  والمحتاجين". (الأب باسيليوس محفوض خادم رعية كنيسة ''رفع الصليب المحيي'' للروم الأرثوذكس في النبعة – بيروت - حائز على ليسانس في اللاهوت وماستر في العلوم الرعائية – عظة – موقع الإنترنت).
أهمُّ ما في الشريعة الرحمةُ والعدلُ والأمانةُ
 ينقلُ متى عن يسوع: "الويلُ لكم أيها الكتبة والفرّيسيونَ المراؤون، فإنّكم تؤدون عُشرَ النعنع والشُمرة والكمّون، بعدما أهملتم أهمَّ ما في الشريعة، العدْلَ والرحمةَ والأمانةَ. فهذا ما كانَ يجب أن تعملوا به من دون أن تُهمِلوا ذاك"، أي دفع العشور. فيسوع يؤكِّدُ ضرورة تأدية العشور في الماضي، وفي السلوكية اليهودية، وهو وإنْ رأى ضرورةَ عدم إهمالها، إلا أنّه تجاوزها بكثير، عندما رأى أن من يرغب في أن يخلصَ عليه أن يبيعَ كلّ ما يملك ويوزّع ثمنه على الفقراء.


  هامش

تقول الأخت جهاد الأشقر عن الجماعة الأول:"وختمت هذا التدبير بوصيّة غالية على قلبها، يوردها بولس في رسالته إلى أهل غلاطية :لمّا عرف بطرس ويعقوب ويوحنا، وهم بمكانة عُمداء الكنيسة، ما وهبني الله من نعمة، مدّوا اليَّ وإلى برنابا يمين الاتفاق على أن نتوجّه نحن إلى غير اليهود وهم إلى اليهود. وكلُّ ما طلبوه منّا، أن نتذكّر الفقراء (غلاطية 2: 9- 10).

أمّا التدبير على مستوى قضيّة المال فكان واضحاً وقاطعاً منذ بداية تتلمذها (الجماعة المسيحية الأولى، ففهمتْ حزم المعلّم تجاهه: "لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (متّى 6: 24). وبدأت مسيرتها من خلال شهادة ساطعة للفقر والمجانيّة: "مجّانا أخذتم مجّانا أعطوا" (متّى 10: 8). لم تقلقَ يوماً بسببه ولم تسمح أن يؤثّر سلباً على بشارتها، حتى لمّا تعرّضت للمجاعة (11: 28 – 30) وعت منذ البداية أن لا مجال لأنصاف الحلول تجاهه لأنه ينقلب سريعاً سلاحاً ضدَّها. فاختارت الطريق الأصعب: أن تُعطي مجاناً، والربّ يهتمّ بالباقي، وأن تتعب لتأمين معيشتها فلا تقبل أن يشتري المال قداساتها ولا أن ينتقص من كرامتها ويُغلق فمها.ولنا في وجه برنابا، الثريّ الذي باع أملاكه ووضعها على أقدام الرسل خير مثال عن التجرّد والنزاهة: فلا هو طالب بحقّ في مقابل عطيّته ولا الجماعة جال في بالها أن تكافئه بسببها!وأمام سمعان الساحر الذي عرض بعض المال لينال سلطة إعطاء الروح القدس، ثار غضب بطرس ووبَّخه: "إلى جهنّم أنت ومالك، لأنك ظننت أنك بالمال تحصل على هبة الروح القدس" (18: 8- 20)، وفي فيلبي "أكبر مدينة في ولاية مكدونية" (16: 12) تعرّض بولس ورفاقه إلى تحدّي المال يوم صادفتهم جارية بها روح عرَّاف وكانت تجني من عرافتها مالاً كثيراً لأسيادها، فأخذت تتبع بولس وتتبعنا، وهي تصيح: "هؤلاء الرجال عبيد الله العليّ، يبشّرونكم بطريق الخلاص". التّحدّي، هذه المرّة، مقنَّع: هو يعترف ظاهريّاً بتبشير بولس ويجرّه إلى فخِّ كسب المال وكسب مدينة فيلبي. وبولس، بقوَّة الروح، يكشف روح الشرّ ويشفي العرَّافة بدل ان يستعملها ويرفض الكسب بهذه الطريقة حتى ولو كان في مدينة فيلبي! ولا يخاف الجلد ولا السجن (16: 16 – 24).
كذلك أيضاً في أفسس وقضيّة الصائغ ديمتريوس وهياكل أرطميس (23: 19- 41). البشارة والتجارة ضدَّان لا يتَّفقان!وفي وداعه لشيوخ كنيسة أفسس نسمع رأي بولس في تعاطي الرسول مع المال: "أنتم تعرفون أني بهاتين اليدين اشتغلت وحصلت على ما نحتاج إليه أنا ورفاقي. وأريتكم في كلِّ شيء كيف يجب علينا بالكدِّ والعمل أن نساعد الضعفاء..." (34: 20- 35).
إنطلاقاً من هذه الجذريَّة، نراها (الجماعة الأولى)، لا تحُابي الوجوه فتتحبَّب إلىٍ الأغنياء لتستميلهم وتحتقر الفقراء والضعفاء. بل على العكس، نراها أحياناً تقسو في معاملتها مع الأغنياء وتعطي الأولويَّة في الحبِّ والعطاء والإهتمام للفقراء: "لا تنسوا الفقراء".

جهاد الأشقر - (الفصل السابع:  الجماعة الأولى ومشاكلها)
دراسات في الكتاب المقدس - أعمال الرسل عنصرة كل العصور – 1987 -  عن  موقع الأب بولس فغالي الإلكتروني


·       من جهةٍ أخرى تحدّثَ الأب بولس فغالي تحت عنوان "أعمال الرسل ولادة الكنيسة في أورشليم" (1994)- دراسة بيبلية – عن ثلاث لوحات لدى لوقا في الفصل السادس والثلاثين، فقال عن " تقاسم الخيرات": "تحدّثت اللوحتان الأوليان عن الحياة الجماعية، فشدّدت على تقاسم الخيرات (2: 44- 45؛ 4: 32- 35) وامتدَّت الثانية بخبر كذب حنانيا وسفيرة الذي عاكس الموقف المثالي الذي وقفه برنابا (4/ 36 – 5/11). قد نرى في هذه النصوص وقائع متفرّقة، ولكنّنا أمام تجسّد الإنجيل في حياة الجماعة. هناك جزء مهم من الحياة البشرية الشخصية والجماعية، يربطه لوقا ببداية الإنجيل والكنيسة.
"
وكانوا يداومون على تعليم الرسل وعلى المشاركة الأخوية، على كسر الخبز وعلى الصلوات... وكان المؤمنون كلّهم متّحدين، يجعلون كل ما عندهم مشتركاً في ما بينهم، يبيعون أملاكهم وخيراتهم ويتقاسمون ثمنها على قدرٍ حاجة كل واحد منهم" (2: 42- 45). "وكان جماعة المؤمنين قلباً واحداً وروحاً واحدة، لا يدّعى أحد منهم ملك ما يخصّه، بل كانوا يتشاركون في كل شيء... فما كان أحد منهم في حاجة(4: 32 – 34).
ترتبط عبارات لوقا بتقليد بشري قديم. فاليونانيون مثلاً حنّوا إلى بشر موحّدة، يتساوى فيها الناس، يتقاسمون كل ما يملكون، ينعمون معاً بخيرات الأرض، وتكون هذه الخيرات لسعادة البشر والمحافظة على كرامتهم. استعاد لوقا هذه الكلمات الغنية بالآمال البشرية التي خابت، ليقول للناس: في الكنيسة تصبح هذه الآمال حقيقة بسبب الإنجيل. فالكنيسة الفتية تبدو هكذا كأنها بشرية جديدة. أو بالأقل هذه هي دعوتها: أن تحرّك الجديد بين البشر بفضل علاقات جديدة مع الأشياء، مع المال، مع خيرات الأرض. وهذه الدعوة هي جوهرية بحيث سيكون الكذب في هذا المجال (5: 1- 11) أوّل فشل عرفته الكنيسة الأولى.وما هو أكيد، هو أن "المقاسمة الأخوية" التي كان المسيحيون الأولون أمناء لها بسبب الإنجيل، لم تكن فقط توافق القلب والروح، بل تحوّل حياة وشهادة في العالم "بقوة القيامة" (4/33).



الفصل السابع
العطاء  والهبات

أخذتم مجانًّا فمجّانًا أعطوا

لا بدّ من التمييز بين عطيّة الله، وعطيّة الناس. وإذا كان الإنجيل يتحدّث كثيرًا عن عطيّة الله، فإنّ مجال بحثنا، يرتكز على العطيّة بين الناس، من وجهة البرّ الروحي وليس البرّ البشري.

يتوسّع تيّار العطيّة بين الناس، ويأخذ بعدًا اقتصاديًا واجتماعيًا، وغالبًا ما تصيرُ العطيّة متبادلة كما هي الحالُ في العصر الحالي، حيث العطايا والهدايا تأسر الناس وتجعلهم يتنافسون على نوعيتها وتنوّعها.
فيسوع يدعو إلى تجنّب المصالح المتبادلة في نصيحته لصاحب الدعوة (إلى وليمة)، «لا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلاّ يدعوك هم أيضًا فتنال المكافأة على صنيعك. لكن إذا أقمتَ مأدبة فادعُ الفقراء والكسحان والعرجان والعميان. فطوبى لك إذ ذاك لأنهم ليس في إمكانهم أن يكافئوك فتكافأ في قيامة الأبرار (لوقا 14: 12-14) ». فعندما ينالُ الإنسان بسخاءٍ من الله، يصبحُ كلُّ تقديرٍ للمنفعة وكلُّ قسْوةٍ من القلب،  حجرَ عثرة. فقد نقل متّى (18: 32-33 ) «ذاك الدينَ كلّه أعفيتك منه لأنكَ سألتني. أفما كان عليك أنتَ أيضًا أن ترحمَ صاحبك كما رحمتك أنا؟».

وتصيرُ العطيّةُ مع يسوع هبةً مجّانية لأكثر مستلزمات الإنسان ضرورةً، «من أرادَ أن يحاكمكَ ليأخذ قميصك، فاترك له رداءكَ أيضًا. ومن سخّرك لتسيرَ معه ميلاً واحدًا فسر معه ميلين. من سألكَ فأعطِهِ، ومن استقرضكَ فلا تُعْرِض عنه (متى 5: 40-42) ». فالقميص (بحسب شرح إنجيل متى صفحة 50 من الكتاب  المقدس)، هو أشدُّ الثياب ضرورةً، ولا يُنزع إلاّ عن الذي يُباع كعبد (تكوين 37/23). ولذلك فإنَّ ما يُطالبُ به الخصمُ باهظ. ومع ذلك يطلبُ يسوع أن تسيرَ الأمور إلى النهاية وأن يُعطى الرداءَ أيضًا، وهو الثوب الفوقاني المستعمل غطاءً في الليل والذي لا تُجيز الشريعة احتجازه بسبب ذلك، إلاّ نهارًا واحداً (سفر الخروج 22/25 وتثنية الاشتراع 24/12). لذا قال يسوعُ:  «أخذتم مجانًّا فمجّانًا أعطوا (متى 10: 8)». وفي هذا الإطار تبدو أهمّية إيمان أعمى أريحا "ابنُ طيما"، الذي "ألقى عنه رداءَه ووثَبَ وجاءَ إلى يسوع"، وهذا الإيمان هو الذي خلّصه "فأبصرَ منْ وقتهِ" وتبع يسوع في الطريق (مرقس 10: 46 – 52).

ويتوسّع لوقا في دعوة يسوع إلى العطاء من غير مقابل، (6: 29-35) «من انتزعَ منك رداءكَ فلا تمْنعه قميصك. وكلُّ مَنْ سألك فأعطِهِ، ومن اغتصَبَ مالكَ فلا تطالبه به، فأيُّ فضْلٍ لكم؟ لأن الخاطئين أنفسهم يحبّون من يحبّهم. وإن أحسنتم إلى من يُحْسِن إليكم، فأيُّ فضلٍ لكم؟ لأن الخاطئينَ أنفسهم يفعلون ذلك. وإن أقرَضْتم منْ تَرْجون أن تَسّتوفوا منه، فأيُّ فضلٍ لكم؟ فهناك خاطئون يُقرضون خاطئين ليَسْتوفوا مثلَ قرضهم. ولكن أحبّوا أعداءكم وأحْسِنوا وأقرضوا غيرَ راجين عوضًا، فيكون أجرُكُم عظيمًا وتكونوا أبناء العليّ، لأنّه هو يَلْطفُ بناكري الجميل والأشرار».

أمثال  
مرقس 12/ 41 -44  فلس الأرملة
لوقا 19/ 8 أعطي الفقراء نصف أموالي
متى 19 /21  اذهب وبع أموالك وأعطها للفقراء ، فيكون لك كنزٌ في السماء.
25 / 34 – 40  الدينونة





الفصلُ الثامن
المساكين والفقراء

طوبى للمساكين فلهم ملكوت الله
يحتلّ المساكينُ والفقراءُ مكانًا مهمًا في الكتاب المقدّس. هم المعوز، الضعيف، المتسوّل، الإنسان المذلول. يرى يسوع في الفقراء الحقيقيين الورثة المفضّلين لملكوت الله.
ويستمرُّ الفقراء في مختلف العصور، أولئكَ المعوزون لسببٍ من الأسباب، الذين لا يستطيعونَ أنْ يُلبّوا حاجاتِهم اليومية على الأرض من مأكلٍ وملبسٍ ومبيتٍ واستطبابٍ. ويبقى حاليًا واحدٌ من كلِّ سبعة أشخاص تقريبًا يعيشُ على الأرض دون خط الفقر وفي فقرٍ مُدقع، فيما أقلّ من ثلاثة من ألف يمتلكون بقيمة 111.2 ألف مليار دولار حصصًا في مؤسسات مال وبورصات وغيرها، حيث يستمرون في استثمار أموالهم في الأسهم والسندات، بينما تعجزُ منظمات الأمم المتحدة عن تحقيق أهداف الألفية الثالثة بخفض خط الفقر.
ويُعتبر فقيرًا العاجزُ عن القيام بأعمال لأي سببٍ، والعاطلُ من العمل، على السواء. وإلى مثلِ هؤلاء توجّه يسوع، لا سيّما الأبرار منهم، ليدعو إلى الاهتمام بشؤونهم ومساعدتهم، لأنّ لهم ملكوت السموات.    

كان الفقرُ، في العهد القديم، حالة توجبُ الاحتقار. نتيجة الاعتقاد بأن الخيرات المادية تُعتبرُ "المكافأة الأكيدة على الوفاء نحو الله. ولا يغيبُ عن الحكماء أنه يوجدُ فقراء صالحون، لكنّهم يعلمون أن الفقرَ كثيرًا ما يأتي كنتيجةٍ للتكاسل والاستهتار فيدينون الكسل المؤدي إلى الفقر. وفي الوقتِ ذاته قد يصبح الفقرُ فرصةً للخطيئة. ويوجد فقراء كثيرون، هم بالأخص ضحايا القدر أو جشع البشر.   

وبحسب معجم اللاهوت الكتاب (صفحة 733)، يبدأ يسوع خطابه الافتتاحي بتطويب المساكين (متّى 5: 3 ، لوقا 6 : 20)،  فيُدعى المساكين إلى وليمة الله (لوقا 14: 21) «أخرج على عجلٍ إلى ساحات المدينة وشوارعها، وائتِ إلى هنا بالفقراء والكسحان والعميان والعرجان». ومعظم من أتى إلى يسوع كان من المتواضعين (متى 11: 25، يوحنا 7: 48 – 49)

وكان يسوع أيضاً فقيرًا، نرى دلائل فقره في بيت لحم (لوقا 2: 7) والناصرة (متى 13: 55) وحياته العامّة (8: 2) وعلى الصليب (27: 35) كلّها صور متنوّعة للفقر.
طوبى للفقراء بالروح ( متى 5: 3) هي دعوة لمن لهم روح المساكين.
وسط الغنى المادي يتجاهل الإنسان فقره الروحي ( رؤيا يوحنا 3: 17) «فلأنّكَ تقول: أنا غنيٌّ وقد اغتنيت فما أحتاجُ إلى شيء، ولأنَّكَ لا تعلم أنّكَ شقيٌّ بائس فقيرٌ أعمى عُرْيان، أُشيرُ عليكَ أن تَشْتري منّي ذهبًا منقّى بالنار لتّغْتني، وثيابًا بيضًا لتلبسها فلا يبدو عارُ عُرْيك».

للفقر الفعلي عند يسوع قيمة روحية بقدْرِ ما يكون علامة للتجرد الداخلي ووسيلة له

الفقر الاختياري يحذّر يسوع تلاميذه من الخطر الكامن في الغنى (متّى 6: 19-21، لوقا 8 : 14 ) وهو يطلب إلى الذين يرغبون في أن يتبعوه عن كَثْب، وابتداءً من رُسُله، اعتناق الفقر الفعلي (لوقا 12/33): «بيعوا أموالكم وتصدّقوا بها واجعلوا لكم أكياسًا لا تَبْلى ». و( متّى 19/21): « فقال له (للغني) يسوع: إذا أردتَ أن تكونَ كاملاً، فاذهب وبع كل أموالك وأعْطها للفقراء». و( متّى 19/27): « فقال له بطرس: ها قد تركنا نحنُ كلّ شيءٍ وتبعناك، فماذا يكونُ مصيرُنا؟ ».

مع ذلك، إن كانَ ينبغي على المرسلين ألا يأخذوا معهم نقودًا من ذهبٍ أو من فضّةٍ أو نحاس (متى 10: 9 وأعمال 3: 6) فتعليل ذلك راجعٌ جزئيًّا  إلى الأوضاع الاجتماعية السائدة في فلسطين، حيثُ تمارس الضيافة بكل سخاء. أما في العالم الإغريقي والروماني، فإن مثل هذا التوجيه لا يمكن تطبيقه حرفيًّأ، فسوف يكون لبولس ميزانية خاصّة لأعمال الرسالة وأعمال الخير. فهو يُحسن العيش في الحرمان. (فيليبي 4: 11-12)

ولم يكن في الجماعة المسيحية الأولى مَنْ يدّعي ملكَ ما يُخصّصه. (أعمال 4: 32، 44- 45)

احتمال الفقر بصبر: إلى جانب من اختار الفقر الطوعي، يوجد آخرون يعيشون في الفقر الفعلي نتيجة الظروف أو الاضطهاد. وقد حافظوا على سخائهم خلال عوزهم (مرقس 12: 42-44) «وجاءت أرملة فقيرة فألْقت عُشرَين،أي فلْسًا، فدعا تلاميذه وقال لهم : الحق أقولُ لكم إن هذه الأرملة الفقيرة ألْقت أكثرَ من جميع الذين ألقوا في الخِزانة، لأنهم كلّهم ألقوا من الفاضل عن حاجاتهم، وأمّا هي فإنّها من حاجتها ألقت كل ما تملك، كلَّ رزقها ».

الخدمة المسيحية نحو الفقراء: تظلّ الفاقة حالة غير إنسانية، ويُبدي الإنجيل متطلبات العدالة الاجتماعية التي أبداها الأنبياء (متى 23: 23) « العدل والرحمة والأمانة ». فعلى أغنياء هذه الأرض واجبات حتمية إزاء الفقراء، وسوف يشاركونهم السعادة الأبدية، إذا ما أحسنوا استقبالهم، أسوةً بالله (لوقا 14: 13 و 21) واتخذوهم أصدقاء لهم بالمال الباطل (16: 9). إن خدمة الفقراء تصبح تعبيرًا عن حبّنا ليسوع، فهو حقًّا الذي نسعفه من خلالهم، في انتظار مجيئه الثاني (متى 25: 34- 46 و26: 11) « من كانت له خيراتُ الدنيا، ورأى بأخيه حاجة، فأغلق أحشاءه دون أخيه، فكيف تُقيمُ محبّةُ الله فيه؟ ».(يوحنا الأولى 3: 7)

ويُعتَبَرُ الفقرُ الفعليُّ الطريق الأمثل للوصول إلى الفقرِ بالروح.


·      معظم الفصل من كتاب "اللاهوت الكتابي" 732 -734





الفصلُ التاسع
الجوع والعطش

بيننا ويبينكم هوّةٌ عميقة

يتلازمُ الجوعُ والعطشُ مع الفقر. الأغنياء قادرون على أن يؤمنّوا المأكلَ والمشرب. لا بلْ أن يوغلوا في ملذاتهما. ويطيبُ للوقا أن يوردَ مثل لعازر والغني (16:19 – 31)، ناقلاً عن يسوع قوله: "كانَ رجلٌ غنيٌّ يلبسُ الأرجوانَ، والكتّانَ الناعمَ، ويتنعّمَ كلَّ يومٍ تنعُّمًا فاخرًا"، بما يؤكدُ استمرار التنعّم اليومي طيلةَ حياته، فيما المقارنةُ السريعةُ تقلبُ مشهد "الأرجوان والكتان الناعم والتنعّم"، إلى "مأساة" رجلٍ آخر هو لعازر "ملقى عندَ باب الغنيِّ تُغطّي القروحُ (بدل الأرجوان والكتّان الناعم)، وكانَ يشتهي أنْ يشبعَ من فُتاتِ مائدة الغنيِّ (الذي يتنعّم كل يومٍ). ويزيدُ من المشهد الدرامي أن "الكلابَ كانتْ تأتي فتلحسَ قروحَه".

ويُلفِتُ يسوعُ  في هذا المثل، إلى إهدار الغذاء ليسَ فقط من الفُتات الذي يتساقط من على المائدة، بل ممّا يفيضُ في كلِّ مرّةٍ ويُرمى إلى الحيونات الأليفة أو في النفايات، وهي سلوكية يستمرُّ أصحابُ الثرواتِ في اتباعها، بحيثُ يحرمون الفقراء منها، ويحمّلونَ مواردَ الأرض أعباء إنتاجية لا يستهلكون مواردها. وتُقدّرُ دولٌ أوروبية ما يُتلفُ من غذاءٍ معدٍّ للاستهلاك الفوري، بمليارات الدولارات، يُمكنُ لو استُخدم في إطعام المحتاجين، أو لو تُرصدُ أثمانُه لإطعامهم لأمكنَ إنقاذ ربع الجياع والفقراء في العالم إنْ لم يكن أكثر.
هذه الفجوة الكبرى، أو البُعد بين الأغنياء والفقراء، يُلفتُ إليه يسوع: فالغِنى الذي هو نعمةُ الفقير على الأرض، يتحوّل إلى فقرٍ في الحياةِ الآخرة بحيثُ لا تستطيعُ كلُّ الثروات أن تؤمّنَ كأس ماءٍ لترطيب اللسان. بينما يتنعّمُ الفقيرُ "بالأرجوان والكتّان الناعم السماوي" أي "أحضان ابراهيم" وليس حضن ابراهيم، بل في المتّسع السماوي الرحب. وتنقلبُ الفجوةُ بين الغني والفقير إلى "هوّة عميقة". لذا يجبُ على الإنسان أن يعرفَ كيفَ يختار، فينتقي  خيارًا لا يحرمهُ من ثروته، بل يحرّك إنسانيته تجاه أخيه الفقير.     

في المُطلق، "يوحي الجوع، والعطش، بحكمِ تعبيرهما عن احتياج حيوي، (معجم اللاهوت الأدبي – صفحة 252)، بضعف الوجود الإنساني أمام الله. فهما من ثمَّ يحملان نوعًا من الازدواج في المدلول (أمثال 30 – 9).] أبعدْ عنّي الباطلَ وكلام الكَذِب، لا تُعطِني الفقر ولا الغنى بل ارزقني من الطعام ما يكفيني لئلاّ أشبعَ فأجحد وأقولُ " من الرب"؟ أو أفتقرَ فأسرق وأعتدي على اسم إلهي[.  فالشعور بالجوع والعطش اختبار إيجابي لا بدَّ وأن يساعد على الانفتاح إلى الله. لكنَّ حالة الجائع شرٌّ لا يريده الله. ولا بدَّ من السعي إلى إزالتها، فإذا اتخذ الجوع أبعاد الظاهرة الجماعية ( المجاعة مثلاً)، فإن الكتاب المقدّس يرى في ذلك كارثة وعلامة دينونة إلهية.

يسوع كما يتابع "معجم اللهوت الأدبي"، هو المسيا الموعود به للفقراء (لوقا 1: 35)، يسوع يُعلن أن الجياع والعطاش يشبعون (لوقا 6: 21) "طوبى لكم أيها الجائعون الآن فسوف تشبعون". إنّه يفتح رسالته ويأخذ على عاتقه وضع الجائع والعطشان.
فهو إذ يؤكّد أن حاجة الإنسان الأساسية هي لكلمة الله ولمشيئته، فإنّه يدعو إلى إطعام الجياع وتقديم كأس ماءٍ إلى عطاش..  يخفّفُ يسوع من الجوع والعطش ويثيرهما. يقول مرقس: وفي تلك الأيام احتشدَ أيضًا جمعٌ كثير، ولمْ يكنْ عندهم ما يأكلون، فدعا (يسوع) تلاميذه وقال لهم: "أُشْفِقُ على هذا الجَمْع، فإنّهم منذُ ثلاثة أيام يُلازِمونَني، وليسَ عندهم ما يَأْكُلون. وإِنْ صَرَفْتُهم إلى بيوتهم صائمين، خارتْ قواهُم في الطريق، ومنهُمْ منْ جاءِ من مكانٍ بعيدْ" (مرقس  8: 1-3).

المسيحي والجياع: بالنسبة إلى تلاميذ يسوع، يكون واجب إشباع الجياع أكثر إلحاحًا الآن منه في أيّ وقتٍ. وإن العطش الذي يعذّب في جهنّم معدٌّ لمن لم يلحظ الجائع الواقف عند بابه (لوقا 16: 19-24) وتكونُ المكافأة لمن يُقدِّم كوب ماءٍ لأحد تلاميذ يسوع (متى 10: 42) فهذا ما سيجري عنه الحساب في الدينونة، فتغذية الجائع، وإرواء العطشان، يمثلان تهدئة جوع وظمأ يسوع في شخص إخوته (متى 25: 35 و42).

ينبغي أن نكون عطاشًا إلى هذه المحبّة التي بفعلها نخفّف من آلام الآخرين".











الفصل العاشر
الضيــافة

يسوع والضيافة

أشفق على هذا الجمع، فليس عندهم ما يأكلون

تذكرُ الأناجيل الأربعة، قبول يسوع الضيافة لدى كثيرين، لكنّ بعضها كانت له دلالاتٌ روحية، ومن خلالها دلالاتٌ اقتصادية واجتماعية. فإذا كان يسوع يقبل دعوةً، وينزلُ ضيفًا عند خاطئ أو عشّار أو جابي أو فرّيسي أو صدّيق، فهل كان فعلاً ذلكَ الضيف المرحّب به فقط، لأنّه قبل الضيافة، أم لأنّه بالفعل كان هو مَنْ يستقبلُ الضيوفَ في كلّ مرّةٍ ينزلُ ضيفًا ويتناولُ طعامًا؟
     صحيح أن يسوع، نصح بإقامةِ المآدب للفقراء الذين لا يمكنهم أن يكافئوا صاحبَ الدعوة. يسوعُ هو واحدٌ منهم. يسوع لم يكن قادرًا كبشريٍّ أن يولمَ للآخرين، فهو ليس لديه منزلٌ يقيم فيه، بل ليس لديه حجرٌ يُسندُ إليه رأسه. وعندما تتكاثرَ الجموعُ ويفوتُ الوقتُ وهم يستمعون إلى كلامِ يسوع، إلى كلامه، يطلبُ إلى تلاميذه أن يُجلسوا هذا الجمهور فوق العشب. ولم تكن المائدةُ تزخرُ بألوان الطعام، بل بالخبز وبالسمك المتكاثر بفعل دعاء يسوع. وفي المقابل ما كانَ هؤلاء الفقراء يقدرون على أن يبادلوا يسوع ضيافته.

     في الحالات التي ذكرها الإنجيليون الأربعة، كان المكانُ قفرًا وقد فات الوقت. كانت الحاجةُ إلى مئتي دينار لشراء أكلٍ لهذه الجموع. لكنّ يسوع كان مهتمًا بغذائهم الروحي إلى جانب الغذاء المادّي. وإذا ذكر متّى ومرقس أن التلاميذ جاؤوا إلى يسوع وطلبوا إليه أن يصرف الجموع إلى القرى القريبة ليشتروا الأكل، لفت يوحنّا – على غرار ما فعل متى في معجزة الخبز والسمك الثانية – إلى أن يسوع سأل فيلبس : "من أين نشتري خبزًا ليأكل هؤلاء؟"، ونقلوا في المعجزة الثانية، عن يسوع قوله: "أشفق على هذا الجمع، فإنهم منذ ثلاثة أيام يلازمونني وليس عندهم ما يأكلون. فلا أريد أن أصرفهم صائمين لئلاّ تخورُ قواهم في الطريق". (متى 15: 32  ومرقس 7: 1-9)

     في مأدبة يسوع للجموع الآتية إلى سماعه، وهم غير محدّدي الهوية والمكانة الاجتماعية أو المهنية، يتجلّى فعلُ الرحمة. فهو لا يريد أن يصرف "الضيوف" – من جاء ليسمعَ كلمته هو ضيفٌ – حتى ولو كانت الموارد الغذائية غير متوافرة. كما يرسمُ نهجًا اقتصاديًا في الضيافة: كفاية الضيف والحرص على الاهتمام بما تبقى. فمائدة يسوع بسيطة: الخبز والسمك. لكن الجموع أكلت حتى شبعت (متى 14: 20) ، وفاض الأكلُ باثنتي عشرة قُفّةً. هذا الفيض من الأرغفة وكسرها والسمك الباقي لم يشأ يسوع رميه في البريّة، بل جمعه كفعلٍ اقتصادي من جهة وفعلِ نعمةٍ من جهةٍ ثانية على البركة التي وفّرها الله لنحو خمسة آلاف رجلٍ ما عدا النساء والأولاد (14: 21). وهذا ما لفتَ إليه في رواية "لعازر والغني"، فالغني يرمي ما يتبقى من مآدبه اليومية إلى الكلاب، ولو أطعمَ لعازر منَ الفائض لديه فقط لأنقذه من الفقر،علمًا أنّ يسوع يريدُ أن يتلازمَ فعلُ العطاء أو الخير مع المحبّة.  

     ولم تختلف الروايةُ في معجزة الخبزِ الثانية.

     إلا أن يسوع، الذي بدُعائه إلى الله، كثّرَ عدد الأرغفة والسمك، كانَ يتمّم معجزته الأولى في عرس قانا (يوحنّا 2: 1- 10) حيثُ كانت أمّه مريم مدعوّةً إلى عرسٍ، «ودعي يسوعُ أيضًا وتلاميذه إلى العرس» وتلبيةً لطلبِ أمّه مريم، بعدما أعلمته أنْ «ليس لديهم خمرٌ»، طلبَ ملء الأجرانَ ماءً ثمّ قال للخدم «اغرفوا الآنَ وناولوا وكيل المائدة ». ويرمزُ الخمرُ دنيويًا إلى كل ما في الحياة من بهجة: الصداقة، الحبُّ الإنساني، وعمومًا كل الفرح الذي يُحظى به على الأرض، مع ما يُحيط به من غموض. فالخمرة تُشير تارةً إلى السُكرِ والفساد وطورًا إلى السعادة. فالخمرُ يُعدُّ من الخيرات الثمينة إذ يجعل بهجةً في الحياة، شرط تناوله في اعتدال وقناعة.

     في الرسائل الراعوية تتكاثر نصائح الاعتدال. على أن تناول الإنسان الخمر عن وعيٍ محبّذ، وقد أراد يسوع نفسه أن يشرب الخمر رغم تعرّضه لسوء الحكم عليه (متّى 11:19)، هكذا مهّدَ إلى سرّ الإفخارستيا، مائدة المحبّة التي بادل بها جميع الذين أضافوه.












هامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولمّا كان المساء دنا إليه تلاميذه وقالوا: " المكانُ قفرٌ وقد فات الوقتُ، فاصرف الجموع ليذهبوا إلى القرى فيشتروا لهم طعامًا". فقال لهم يسوع : "لا حاجةَ لهم إلى الذهاب، أعطوهم أنتم ما يأكلون". فقالوا له: " ليس عندنا ههنا غيرُ خمسة أرغفة وسمكتين". فقال : "عليّ بها" . ثم أمر الجموع بالقعود على العشب، وأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع عينيه إلى السماء وكسر الأرغفة، وناولها تلاميذه، والتلاميذ ناولوها الجموع. (متى 14: 15-19)

ففات الوقتُ، فدنا إليه تلاميذه وقالوا:"المكانُ قفرٌ وقد فاتَ الوقتُ، فاصرفهم ليذهبوا إلى المزارع والقرى المجاورة، فيشتروا لهم ما يأكلون". فأجابهم: "أعطوهم أنتم ما يأكلون". فقالوا له : أنذهب فنشتري لهم خبزًا بمائتي دينار ونُعطيهم ليأكلوا؟ " (مرقس 6: 35-42)

فرفع يسوعُ عينيه، فرأى جمعًا كثيرًا مقبلاً إليه، فقال لفيلبُّس: " من أين نشتري خبزًا ليأكل هؤلاء؟" وإنّما قال هذا ليمتحنه. أجابه فيلبس:" لو اشترينا خبزًا بمائتي دينار، لما كفى أن يحصُلَ الواحدُ على كسرةٍ صغيرة".  ثم معجزة الخبز والسمكتين ( يوحنا 6: 5-13)






من منكم يكونُ له صديقٌ فيمضي إليه عند نصف الليل، ويقولُ له: يا أخي أقرِضْني ثلاثة أرغفةٍ

إنّها فعل رحمة: يعتبرُ "معجم اللاهوت الكتابي" (495 – 496)، }أنَّ الضيف يمر طالبًا المأوى الذي يفتقر إليه. هذا الضيف في حاجة لقبوله ومعاملته بمحبّة. ولا يسوغ التردد أمام أي تضحية، ولا التردّد في إزعاج الأصدقاء عندما لا تتوفّر لدينا الوسيلة اللازمة لسدّ احتياجات ضيفٍ يفد من دون أن يكون قدومه متوقّعًا (لوقا 11: 5-6)."من منكم يكونُ له صديقٌ فيمضي إليه عند نصف الليل، ويقولُ له: يا أخي أقرِضْني ثلاثة أرغفةٍ، فقد قدمَ عليَّ صديقٌ من سفرٍ، وليسَ عندي ما أقدّم له، فيُجيبُ ذلكَ من الداخل: لا تُزْعجني، فالبابُ مقفل وأولادي معي في الفراش، فلا يمكنني أن أقومَ فأعطيكَ. أقولُ لكم: وإن لم يقمْ ويُعطِهِ لكونه صديقه، فإنّه ينهض للجاجته، ويعطيه كل ما يحتاج إليه"

ويؤيّد يسوع الترحيب الحميم ويؤيّد معالم الرقّة فيه (لوقا 7: 42- 46) " إني دخلتُ بيتكَ فما سكَبْتَ على قدميَّ ماءً. وأما هي فبالدموع بلّت قدميَّ وبشعرها مسحتها. أنتَ ما قبّلتني قبلةً أما هي فلم تكفَّ عن تقبيل قدميَّ. أنتَ ما دهنتَ رأسي بزيتٍ معطّرٍ، أما هي فبالطيب دهنَتْ قدميَّ". ليدلّ على المحبّة الأخوية التي على المسيحي أن يمارسها نحو الجميع" (رومة 12: 13 و 13: 8). كونوا للقديسين، في حاجاتهم مشاركين، وإلى ضيافة الغرباء مبادرين" و" لا يكوننَّ لأحدٍ عليكم دينٌ إلا حبُّ بعضكم لبعض".

الضيافة شهادة إيمان: يُعلن يسوع أمام الجميع في ساعة الدينونة الأخيرة، الطابع السرّي لهذه الضيافة، التي هي صورة من صور المحبّة. فمن خلال الضيف وفي الضيف، نقبلُ يسوع نفسه أو نرفضه (متى 25 : 35 و43) نعترفُ به أو نُنكره، فهو يقول:"لأني جعتُ فأطعمتموني وعطشتُ فسقيتموني وكنتُ غريبًا فآويتموني وعريانًا فكسوتموني ومريضًا فعدتموني وسجينًا فجئتم إليَّ". أو رفضوه لأنهم لم يتمّموا ذلك.  

ويرى الذين يؤمنون بيسوع في كلّ ضيفٍ، يسوع نفسه ( متى 10: 40 ومرقس 9: 37) "مَنْ قَبِلَكُمْ فقد قَبِلَني، ومن قبلني قبلَ الذي أرسلني" أو "من قبِلَ واحدًا من أمثالِ هؤلاء الأطفال إكرامًا لاسمي فقد قبلني أنا ومن قبلني فلم يقبلني أنا، بل قبلَ الذي أرسلني"{.

  فيجبُ أن نؤثر استقبال الذين لن يتمكنوا من مكافأتنا عمّا نقدّمه لهم من خدمات (لوقا 14: 13). يقولُ يسوع: "إذا أقمْتَ مأدبة فادعُ الفقراء والكسحانَ والعُرْجانَ والعُمْيانَ فطوبى لكَ لأنهم ليس في إمكانهم أن يكافئوكَ فتُكافأ في قيامة الأبرار". لأنّ "السخاء الحقيقي لا يتوقّع المبادلة بالمِثْل". (المرشد إلى الكتاب المقدس صفحة 524)














الخدمةُ في الضيافة

وأقامَ له لاوي مأدبةً عظيمةً في بيته،
وكان على المائدة معهم جماعةٌ كثيرةٌ من الجباة وغيرهم

     تفرِضُ الضيافةُ، بحسب العادات الاجتماعية، في عصر يسوع وفي فلسطين، وحتى في المناطق المجاورة، أن  يهتمَّ المضيفُ بضيفه. هنا يسوع يُعطي تلاميذه الخبزَ والسمكَ وهم يناولونه إلى الشعب. وبطبيعة الحال، وسط هذا الحشد، يُمكن أن رجالاً أو نساءً ساهموا أو ساهمن في خدمة الآخرين. هذه الخدمة يقوم بها أهلُ البيت. وهي ظهرت في الإنجيل منذُ بدايات البشارة حينَ ألمحَ متى ومرقس ولوقا إلى أن حماة بطرس بعدَ أن شفاها يسوعُ من الحمّى، "نهضت وأخذت تخدمه" (متى 3: 14- 15 ومرقس 1: 29-31 ولوقا 4: 38- 39)، أو تخدمهم بحسب مرقس ولوقا.

وتظهرُ هذه العناية في الحالات التي قبل فيها يسوعُ ضيافةً. لكنها تختلف بين مضيفٍ وآخر فهو يعتب على الفريّسي سمعان، الذي لم يتقبّل أن تغسل امرأةٌ خاطئة قدميه. فقال له: يا سمعان. "أترى هذه المرأة؟ إني دخلتُ بيتكَ فما سكبتَ على قدميَّ ماءً. وأمّا هي فبالدموع بلّت قدميّ وبشعرها مسحتهما. أنت ما قبّلتني قبلةً، وأمّا هي فلم تكفَّ عن تقبيل قدميّ. أنت ما دهنتَ رأسي بزيتٍ معطّر، أمّا هي فبالطيب دهنت قدمي".( لوقا 7: 44-45) لذا من واجب الضيافة غسل القدمين والقبلة على الرأس ودهنه بالزيت، أو هي واجباتٌ خاصّة بمن ولي مرتبةً أو قيمةً أو مركزًا عاليًا.
وفي مكانٍ آخر يعتبُ يسوع على مرتا، لكثرة اهتمامها بالضيافة، على عادة الكرماء في كل الأزمان. لكن ما هو أهم من الضيافة، هو قبول كلمة الله.

     وحين نزلَ يسوع عند زكّا العشّار بهدف أن يبدّل في استعمال المال، فيصير لفعل الخير. ونزلَ عند مرتا ليعلن عن أهميّة كلمة الله. كان قبوله ضيافة سمعان الفريّسي، ليعلن أهميّة الغفران للخطأة. فالذي يكونُ أكثرَ حبًّا للمداين، ذلك الذي أعفاهُ من الأكثر (لوقا7/43). ومن يُظهرُ حبًّا كثيرًا هو من غُفِرَت له خطاياه الكثيرة (لوقا 7/47).

     هذا الواقع يقودنا إلى أن يسوع يؤاكل الخطأة والجباة والذين رذلهم المجتمع. فهو دعا متى أو لاوي ليتبعه، وقبلَ ضيافته وبينما هو على الطعام في البيت، جاء كثيرٌ من الجُباة والخاطئين، فجالسوا يسوع وتلاميذه". (متى 9: 9-10) أو "وجلس يسوع للطعام عنده، وجلسَ معه ومع تلاميذه كثيرٌ من الجُباة والخاطئين". (مرقس 2: 14-15) وفي لوقا: "وأقامَ له لاوي مأدبةً عظيمةً في بيته، وكان على المائدة معهم جماعةٌ كثيرةٌ من الجباة وغيرهم". (لوقا 5/29)

ويكثّرُ يسوع مشهديةَ جلوسه على الطعام. فهو تارةً يجالسُ الخطأة ليرتقي بهم إلى مستوى الأصحّاء، وهو أحيانًا يجالسُ العشّارين، وطورًا الفريسي، وبدأ بقبول الدعواتِ بحضوره عرسِ قانا. وعلى رغمَ اقتصار أخبار الولائم على هذه الأمثلة المحدّدة، توسّع يسوع في أهميّة الولائم والطعام المشترك.
     فالإنسان يتناول وجباتٍ عدّة أثناء النهار، أو في ظروفٍ رسمية لوليمةٍ أوسع، وفيها قد يقتسم خبزَ القفرِ أو قد يُفرِط في النهم الماجن. ومن شأن المشاركة في المائدة أن تخلقَ بين المدعوّين وحدةَ تعايشٍ. (معجم اللاهوت الكتابي صفحة 833)
     وتُحقّق أعياد الولائم الإنسانية معناها كاملاً عندما يشارك فيها الإنسان – الإله (يسوع) في حضوره. فهو الصديق الذي يُدعى إلى مائدة لعازر (لوقا 10:38-42)، وإلى وليمة عرس قانا (يوحنا 2: 1-11). وهو يقبل دعوة سمعان الفرّيسي، ويتقبّل هناك اعتراف الخاطئة التائبة (لوقا 7: 36-50)، ويجلس من دون تشكّك إلى مائدة العشّارين (متّى 19: 2-10).

ويُضفي يسوع على الولائم في حضوره، ملءَ قَدْرها، ويجمع أخصّاءه في وحدة المائدة، وينطق بنفسه كلمات البركة ( متى 14: 19 و15: 36)، ويؤكّد قواعد الضيافة  (لوقا 7: 44-46)، ويوصي باختيار المقعد الأخير بتواضع (لوقا 14: 7-11)، ويحمل همَّ الفقير ألعازار (لوقا 16: 21)».

ومارسَ تلاميذُ يسوع ورسله الضيافة والاهتمام بالمحتاجين والفقراء والضيوف. فبطرسُ يدعو إلى الضيافة من دون تذمّر، ويقولُ في رسالته الأولى: "ليُضِفْ بعضكم بعضًا من غيرِ تذمّر، وليخدم بعضكم بعضًا، كلُّ واحدٍ بما نالَ من الموهبة" (4: 9-10)، وفي شرح الآيتين، تحملُ حاشية رسالة بطرس، أن التلميح يلفت إلى "ضيافة الأخوة المسافرين، والخدمة تعود في وجهٍ خاص إلى مساعدة المعوزين"، كما يورد بولس في رسائله إلى الرومانيين (12/7) أنّ: "من له موهبة الخدمة فليخْدم"، وفي أعمال الرسل (6:  2-8) "فأخذ اليهود الهلّينيون يتذمّرون على العبرانيين، لأن أراملهم يُهْمَلْنَ في خدمة توزيع الأرزاق. فدعا الإثنا عشر جماعةَ التلاميذ وقالوا لهم: لا يحسنُ بنا ان نتركَ كلمةَ الله لنخدمَ على الموائد. فابحثوا ايها الأخوة، عن سبعة رجال منكم ... فنقيمهم على هذا العمل". ورسالة بولس الأولى إلى تيموتاوس (3/ 8 وما بعدها). (الكتاب المقدس – العهد الجديد صفحة 748 – 749).
هامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
-       وجاء يسوع إلى بيت بطرس، فرأى حماته ملقاة على الفراش محمومة، فلمس يدها ففارقتها الحمّى، فنهضت وأخذت تخدمه (متى 3: 14-15)
-       ولمّا خرجوا من المجمع، جاؤوا إلى بيت سمعان وأندراوس ومعهم يعقوب ويوحنا،. وكانت حماة سمعان في الفراش محمومة، فأخبروه بأمرها. فدنا منها فأخذ بيدها وأنهضها، ففارقتها الحمّى، وأخذت تخدمهم. (مرقس 1: 29-31)
-       ثمَّ تركَ المجمع ودخلَ بيتَ سمعان. وكانت حماةُ سمعان مصابة بحمّى شديدة فسألوه أن يُسعفها، فانحنى عليها، وزجرَ الحمّى، ففارقتها، فنهضت من وقتها وأخذت تخدمهم.(لوقا 4: 38-39)
-       ومضى يسوع فرأى في طريقه رجلاً جالسًا في بيت الجباية يقال له متّى، فقال له "اتبعني!" فقام وتبعه، وبينما هو على الطعام في البيت، جاء كثيرٌ من الجُباة والخاطئين، فجالسوا يسوع وتلاميذه. (متى 9: 9-10)
-       ثمَّ رأى وهو سائرٌ لاوي بن حلفى جالسًا في بيت الجباية، فقال له:"اتبعني!" فقامَ فتبعه. وجلس يسوع للطعام عنده، وجلسَ معه ومع تلاميذه كثيرٌ من الجُباة والخاطئين. (مرقس 2: 14-15)
-       وأقامَ له لاوي مأدبةً عظيمةً في بيته، وكان على المائدة معهم جماعةٌ كثيرةٌ من الجباة وغيرهم (لوقا 5: 29)



الفصلُ الحادي عشر
العطور والدهن بالطيب


يُعتبرُ العطرُ ضروريًا للحياة، فهو يدلُّ من جهة على الفرح ويُعبّر عن الألفة الاجتماعية والتقارب بين الناس والمحبّين، ويرمزُ من جهةٍ أخرى إلى التقدمة وتسبيح الله. ويبدأ المسيحيُّ حياته بالمعمودية ومسح الميرون وهو خليطٌ من العطور الفاخرة الثمينة.

وقدّمَ المجوسُ إلى يسوعُ عندَ ولادته العطورّ والطيوب "ذهبًا ولُبانًا ومرًّا" (*)، (متى: 2/11)، بينما حملتْ "مريمُ المجدلية ومريمُ أمِّ يعقوب وسالومةُ طيبًا ليأتينَ فيُطيّبْنَهُ" (مرقس 16/1)، صبيحةَ قيامه من الموتْ. بحيثُ يبدأ يسوعُ حياتَه بالطيب ويبدأ قيامته بالطيب، فيما تهيّأَ للموت بطيبِ الناردين غالي الثمن.

وليسَ الطيبُ مسألةً اقتصادية يُقاربها الناس، بخاصةٍ الفقراء، ولكنّه قد يلعب دورًا اقتصاديًا عندما يدلُّ على الفرح. فالإنسانُ الفَرِحُ يُنتِجُ أكثرَ ممن ليسَ فرِحًا، لأنَّ الفرح يُزيلُ الهمَّ وينعش الروح. لذا يدعو يسوع الصائمينَ – وهم يحملونَ همًّا جسديًا – إلى "دهنِ الرأسِ وغسْلِ الوجهِ، لكي لا يظهروا للناسِ أنّهمْ صائمين" (متى 6: 17 – 18)، لأنّ المهمَّ في الصومِ أن يكونَ مقرونًا بحبِّ القريب وعمل البرِّ والصدقة وتقاسم الثروات.

ويُحدثُ الإسرافُ في استخدامِ الطيبِ إشكالاً لدى تلاميذ يسوع، بحسبِ متى، لأنّ ثمنه يمكن أن يُعطى إلى الفقراء، وبطبيعةِ الحال يقلبُ يسوعُ المشهد، لأنّ الميتَ يستحِقَ أنْ يُطيّبَ جسده بما هو ثمين، فكيف إذا كان إلها وأهمّ من الملوك؟

ويجعلُ متى الاستياءَ شاملاً التلاميذ كلّهم، لأنّهم من بيئةٍ فقيرة تعرفُ قيمةَ هذا الطيب، بينما يجعلَ مرقس الاستياء في "بعضهم"، من دون أنْ يعني البعض تلميذًا واحدًا "لأنهم قالوا في ما بينهم: لِمَ هذا الإسرافُ في الطيب" ؟ على خِلافِ يوحنا الذي حصر الاستياء بيهوذا الاسخريوطي لأنّه حاملُ صندوق المال عند يسوع "فيختلسُ ما يُلقى فيه". 

وقد يكونُ الخلافُ في ما بينَ روايات الإنجيليين إظهار قيمة الطيب، فمتّى لا يذكرُ ثمنه بل يجعله "غاليًا"، تاركًا إظهار القيمة إلى شمولية الاستياء لدى التلاميذ. بينما جعل مرقس الاستياء يشملُ البعض في مقابل تحديد الثمن بثلاثماية دينار، بينما لدى يوحنا رؤيا أخرى تنحصر في الاستياء والتذمُّر ممن سيسلّم يسوع إلى الصلب.

في النهاية يبقى الطيبُ عنصرًا اقتصاديًا في حياة الشعوب والناس، لغاياتٍ متنوّعة. أمّا بالنسبة إلى المؤمن فالطيبُ الحقيقي العملُ بمشيئة يسوع، والاتحادُ به وترجمة تعاليمه أفعالاً.

(*) – يُقدّر موقع orthodoxonline الإلكتروني حجم الذهب بـ28 سبيكة مزخرفة، إلى 70 كُرة من اللُّبان والمرّ حجم الواحدة بحجم حبّة الزيتون – والهدية موجودة في دير القديس بولس في الجبل المقدّس "آتوس" – اليونان.

هوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
-       وكان يسوع في بيت عنيا عند سمعان الأبرص. فدنت منه امرأةٌ ومعها قارورةُ طِيبٍ غالي الثمن، فأفاضته على رأسه وهو على الطعام. فلمّا رأى التلاميذُ ذلك، استاؤوا فقالوا:" لمَ هذا الإسراف؟ فقد كان يمكن أن يُباعَ غاليًا، فيُعْطى الفقراءُ ثمنهُ". (متى 26: 6-9)
-       وبينما هو في بيت عنيا عند سمعان الأبرص، وقد جلس للطعام، جاءت امرأةٌ ومعها قارورةٌ من طيبِ الناردين الخالص الثمين، فكسرت القارورة وأفاضته على رأسه. فاستاء بعضهم وقالوا في ما بينهم :" لمَ هذا الإسراف في الطيب؟ فقد كان يمكن أن يباعَ هذا الطيب بأكثر من ثلاثماية دينار فتُعطى للفقراء". ( مرقس 14: 3-5)
-       ودعاه أحدُ الفريسسين إلى الطعام عنده، فدخلَ بيت الفرّيسي وجلسَ إلى المائدة. وإذا بامرأةٍ خاطئة كانت في المدينة، علمت أنّه في بيت الفرّيسي، فجاءت ومعها قارورةُ طيبٍ، ووقفت من خلف عند رجليه وهي تبكي، وجعلت تبل قدميه بالدموع، وتمسحهما بشعرِ رأسها، وتقبّل قدميه وتمسحهما بالطيب (لوقا 7: 36-38) يا سمعان عندي ما اقوله لك. – 500 دينار
-       يا سمعان  أترى هذه المرأة؟ إني دخلتُ بيتكَ فما سكبتَ على قدميَّ ماءً. وأمّا هي فبالدموع بلّت قدميّ وبشعرها مسحتهما. أنت ما قبّلتني قبلةً، وأمّا هي فلم تكفَّ عن تقبيل قدميّ، . انتَ ما دهنتَ رأسي بزيتٍ معطّر ، أمّا هي فبالطيب دهنت قدمي.( لوقا 7: 44-45)
-       قبل الفصح بستة أيام جاء يسوع إلى بيت عنيا، حيثُ كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات. فأُقيمَ له عشاءٌ هناك، وكانت مرتا تخدم، وكان لعازر في جملة الذين معه على الطعام. فتناولت مريم حُقَّةَ طيبٍ من الناردين الخالص الغالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثمَّ مسحتها بشعرها. فعبقَ البيتُ بالطيب. فقال يهوذا الاسخريوطي أحدُ تلاميذه، وهو الذي أوشكَ أنْ يُسلِّمه:"لماذا لمْ يُبَعْ هذا الطيبُ بثلاثمائة دينار، فتُعطى إلى الفقراء"؟ (يوحنا 12: 1-5)
-       مثلُ ملكوت السموات مثلُ ملكٍ أقام وليمةً في عرسِ ابنه (متى 22/2)
-       مثلُ المدعوّين المتخلّفين عن الدعوة "طوبى لم يتناول الطعام في ملكوت الله ، صنع رجلٌ عشاءً فاخرًا ودعا إليه كثيرًا من الناس (لوقا 14: 15- 21)
-       نصيحة لصاحبِ الدعوة (لوقا 14: 12-14)
-       في ضيافة زكّا العشّار (لوقا 19: 1-10)

الفصلُ الثاني عشر
القوت والوجبة

داوود حين جاع هو والذينَ معه، دخلَ بيت الله، وأكلوا الخبزَ المقدَّس

"يحتاجُ  الإنسانُ، شأنهُ شأن سائر الكائنات الحيّة، إلى الغذاء للعيش، وتبعيَّتُه هذه تجاه العالم علامة أساسية لنقص كيانه الذاتي، ولكنّها نداء لتغذيته من الله، الذي وحده يتمتع باكتفاء ذاتي. ومن أجل أن يتعلّمَ الإنسانُ أنَّ غذاءَه الحقيقي أسوةً بالرب يسوع، هو مشيئة الآب (يوحنا 4: 34)، يقدّم له الكتاب المقدس أفعالَ التغذية على ثلاثة مستويات مختلفة: مستوى الخلق والطاعة، مستوى العهد والإيمان، ومستوى الإنجيل والمحبة". (معجم اللاهوت الكتابي - صفحة 639)
ولأن الإنسانَ ، يُضيفُ المعجم، هو ابنُ الله، يستطيع في الوقتِ ذاته أن يستغنيَ عن الغذاءات في هذا العالم أو أن يستخدمها كلها. فيسوع "حتى يُظهرَ أن الله يكفيه، وأن غذاءَه هو مشيئةُ أبيه (يوحنا 4: 34) يصومُ أربعينَ يومًا وأربعين ليلةً (متى 4 1-4)، ليسَ لأنّه لا يكترثُ للغذاء، فهو يقتاتُ مثلَ تلاميذه (يوحنا 4: 31)، ويُلبّي الدعوات لتناول الوجبات في المآدب التي تقام من أجْله (متى 11/19)، وينصح تلاميذه بأن يتناولوا من كلِّ ما يُقدّم لهم (لوقا 10/8)، ويتولّى تكثير الأرغفة ليُجَنِّبَ الجماهيرَ الجوع (متى 15/32). 
وعندما جاع تلاميذُ يسوع "أخذوا يقلعونَ السنبلَ ويأكلونَ"، وذلكَ في زروعٍ ليست لهم. وللمفارقة لم يوبخهم الفريسيون لأنهم سرقوا، ولا على الأكل، بل على العمل المحرّم يومَ السبت" (حاشية إنجيل متى 12: 1 - 8)، لأن قلع السنابل في نظر أهل الشريعة يعادل عملَ الحصاد المحرّم يوم السبت. لكنّ يسوع في دفاعه عن جواز مخالفة ما هو محرّم وهنا "ضرورة الغذاء"، أجاب الفريسيين: "أما قرأتم ما فعلَ داوود حين جاع هو والذينَ معه؟ كيفَ دخلّ بيت الله، وكيفَ أكلوا الخبزَ المقدَّس، وأَكْلُهُ لا يحلُّ لهُ ولا للذين معه، بل للكهنة وحدهم". وينقلُ الخبر أيضًا لوقا (6: 1-5) ومرقس (2: 23 – 28). وإذ يتابع يسوع تقريعه للفريسيين حول إمكان العمل يومَ السبت لضرورات إنسانية، تفيدُ الحادثةُ بأنَّ خيرات الأرض ليستْ حكرًا على مالكيها ومستثمريها، بل يجوز للمحتاجينَ والجائعينَ أن يأكلوا منها ضمنَ ضروراتِ الحياةِ، وليس في شكلٍ دائم حتى لا تعمَّ الفوضى وتكثر السرقات والاختلاسات المبرّرة بالحاجة، بخاصةٍ أن السرقة من الخطايا الرئيسة.      



الفصلُ الثالث عشر
الجشـع

تبصّروا واحذروا كلَّ طمعٍ

يشكِّلُ الجشعُ نمطًا اقتصاديًا يُضرُّ بالعدالة في توزيع الثروة، لأنّه يهدفُ إلى الإستزادةِ من كلِّ أمرٍ بأساليبَ ملتوية تتجاوز القوانين وتحدُّ من حقوقِ الآخر. فالإنسانُ الجّشِعُ لا يعودُ يُقِرُّ بحقٍ إلى الآخر، لا يرضى بربحٍ يسيرٍ في التجارة، ولا بفائدةٍ أو ربى قليلٍ على قروضٍ إلى محتاجين، ويستزيدُ باكتناز المال الحرام، مال اليتامى والفقراء، ويُعطي القليل في مقابل كسبِ الكثير.
ويعتبرُ "معجم اللاهوت الأدبي" ( صفحة 244- 246)، "كلمة جشع أكثر الألفاظ مطابقة للفظ اليوناني pleonexia  (من pleon echein أي الحصول على أكثر) الذي يُشيرُ في السبعينية، وفي العهد الجديد، إلى عطشٍ في التملّكِ لا يقفُ عندَ حدٍّ، من دون التفاتٍ إلى الآخرين، بل أحيانًا على حسابهم".

ويُضيفُ: "يتفّق الجشع أكثر ما يتّفق مع الطمع، وهو فسادُ الرغبة، ولكن في ما يبدو مع تضاعُف بعض الميزات: فهو طمعٌ عنيف، يكادُ يكونُ جنونيًا (أفسس 4: 19)، حيثُ يصفُ بولس مرتكبهُ بأنّه "فقد كلَّ حسٍّ فانغمسَ في الفاحشةِ مستهترًا". وُضادُ الطمعُ بنوعٍ بارز محبّة القريب، لا سيّما الفقراء، وينصبُّ أولاً على الخيراتِ الماديّة، الغنى والمال".

يوردُ مرقس (7: 21 – 22)، من ضمن قائمة خطايا يكشفُ يسوع عن منبعها الباطني، "الطمعَ"، عندما يُميّزُ يسوعُ بين "ما هو طاهر وما هو نجسٌ". "فما يخرُجُ من الإنسان هو الذي يُنجّسُ الإنسانَ، لأنذهُ من باطنِ الناس، من قلوبهم تنبعثُ المقاصدُ السيِّئةُ والفُحشُ والسَّرِقةُ والقتلُ والزِّنى والطمعُ والخبثُ والمكرُ والفجورُ والحسدُ والكِبرياءُ والغباوةُ". ويقول يسوعُ في لوقا (12/15): "تبصّروا واحذروا كلَّ طمعٍ لأنّ حياةَ المرءِ، وإنِ اغتنى، لا تأتيه من أمواله".
هنا يضعُ يسوع في الرؤية الأمامية الرؤيةَ المستقبلية، فالثراءٍ مهما كانَ كبيرًا وواسعًا لا يمكنُ انْ يضمنَ أبديةَ الحياة. "مامون" يعجزُ عن شراء الحياة وصدِّ الموت.  ويصف يسوعُ جهل ذلك الغني المستمتع بمدخراته، كما لو كانَ الغدُ في حوزته.
وعليه فإن الجشع، بحسب لوقا، يقوم في آنٍ واحدٍ، على الرغبة في الاستزادة دائمًا مما نحوزه أكثر فأكثر ولو على حسابِ الآخرين. وعلى التعلّق عن "بخل" بالخيرات التي هي في حوزتنا فعلاً.
إنّ الإنسان الجشع يُضحّي بالآخرين في سبيل ذاته، باستخدام العنف إذا لزم الأمر. وتوحي رسالة يعقوب إلى وجود أشخاص يلجأون إلى كل الوسائل ليربحوا المال. يستعبدون الآخرين، ويحتفظون بأجر العامل ليزيد غناهم غنى. يذبحون العجول المسّمنة من أجل ولائمهم، وكلُّ ذلك يحدثُ، أما الفقراء الذين يسحقهم الأغنياء.(5/5) وحيثُ  يتهم الأغنياء بقوله لهم: "أنتم تشتهون ولا تنالون، فتقتلون". (4/2)

الجَشِعُ  يسلبُ ويتمسّك بشغفٍ شديد،  بما تُثيرُ فيه رغباته. فهو يجرّد الفقراء في سبيل منفعته. (يعقوب 5: 1- 6) ولوقا (20/47) حيثُ يحذّر يسوع من التعاطي مع الكتبة الذين "يأكلون بيوت الأرامل وهم يظهرون أنهم يُطيلون الصلاة".







هامش

الرسل والجشع
يُصبحُ الجشع مشكّكًا إذا وُجِدَ لدى الرسول. لأنه يجب، بحكم دعوته، " أن يكونَ عبدًا للجميع" (مرقس 10:/44 وكورنتس الأولى 9/19).  ويؤكّد بولس أنه لم يُضمر قط أي نيّةِ طمعٍ (تسالونيكي الأولى 2:/5)، وأنّه أبعد من أن يشتهي شيئًا من أموال المؤمنين (أعمال 20/33)، وقد كانَ يعملُ بيديه، لئلا يكونَ في أمرِ معيشتهِ عبئًا عليهم، مع أنّه كانَ يحقُّ له ذلك (أعمال 20/34 – تسالونيكي الأولى 2/ 9، كورنتس الأولى 9: 6 – 14، كورنتس الثانية 11: 9 – 10 و12: 16 – 18)، ولكي يجعل تجرّده على هذا النحو فوق كلّ شكٍ (كورنتس الأولى 9/12، راجع فيلبّي 4/17)، ينبغي أن يكون هذا السلوك مثالاً للخدّام الصغار (أعمال 20: 34 – 35) إذ لا يجوز أن يكون لا الأسقف (تيموتاوس الأولى 3: 3، تيطس 1: 7) ولا الشمامسة (تيموتاوس الأولى 3: 8) محبّين للفضّة والمال الخسيس.
ويطبع الطمعُ، بعكسِ ذلك، المعلمين الكذبة (تيطس 1/11، تيموتاوس الثانية 3/2) الذين، تحت ستار التقوى، يجدّون في إثر الكَسْبِ، من دون أن يقنعوا بما تملك أيديهم ( تيموتاوس الأولى 6: 5 – 6). 
"معجم اللاهوت الأدبي"





الفصلُ الرابع عشر
التعامل مع الديون

ذاك الدَيْنُ كلُّه أعفيتُك منه لأنّكَ سأَلْتَني،
 أفما كان يجبُ عليكَ أنتَ أيضًا أن ترحمَ صاحبَكَ؟

يعتبرُ الدَيْنُ بمثابةِ وديعةٍ تخصُّ الدائن، وعلى المدينِ أن يردّها. وتعتبرُ التشريعات المدنية أنَّ الدّيْنَ حقٌّ يجب أن يُردَّ، لكنْ لم يُذكر في تعاليم يسوع أنّه حقٌّ، بلْ يُستنْجُ مما وردَ في أمثالِ يسوع، أنَّ المدينَ يُسجنُ إذا لم يُسدّد ما عليه من ديون إلى واهبيه الدائنين.
ونظراً إلى كونِ الدينِ يُشكّلُ عبءًا كبيرًا على صاحبه، اعتبرَتْ الخطيئةُ بمثابةِ دَيْنٍ على الخاطئ تجاه الله. ولعلَّّ الموازاة بين الدَيْن وبين الخطيئة دفعت يسوعَ إلى تضمين الصلاة الربّية (الكهنوتية) طلبَ الإعفاءِ من الديون التي على المؤمنين، أي من الخطايا، مقرونًا بإعفاء هؤلاء الديونَ التي لهم على آخرين وتاليًا الخطايا. فالله لا يغفرُ الخطايا لمرتكبيها إذا لم يبادروا إلى غفران من أساء إليهم. وينقلُ متّى في إنجيله (6: 9- 13) النص الأطول للصلاة الربية، وفيها "أعْفِنا (يا الله) مما علينا، فقدْ أعفَيْنا نحنُ أيضاً من لنا عليه" فيما ينقلُ لوقا (11:1-4): "وأعفِنا من خطايانا، فإنَّنا نُعفي نحنُ أيضًا كلَّ من لنا عليه". ويُلفتُ الشرحُ الواردُ في حاشية الصفحة 52 من الكتاب المقدس – العهد الجديد – إنجيل متى، إلى أن الترجمة اللفظية لكلمة "ممّا علينا" هي "ديوننا"، ويُضيفُ الشرح "ان الدَيْنَ، في لغة العالم والكتاب المقدّس، هو واجب قانوني وتجاري بين البشر، وكان هذا الالتزام ذا شأنٍ عظيمٍ جداً في العالم القديم، فيُعرّض لفقدان الحرية. ولم تُعرف هذه الاستعارة في العهد القديم، لكنَّ الدِينَ اليهوديَّ استعملها لوصف موقف الإنسان من الله، وهو مدينٌ له عاجزٌ عن الوفاء، وفي هذه الحال تدل الاستعارة على كون الإنسان خاطئًا. وتحملُ هذه الصلاة على الطلب إلى الله أن يُعفي المؤمنين من ديونهم له". فيربط يسوع ربطاً وثيقًا بين واجبات الناس (المؤمنين) نحو الله وواجباتهم نحو إخوتهم. ويربط بين إعفاء الله لهم وإعفائهم هم لإخوتهم سواء الديون او الخطايا.   
ويؤكد يسوع هذا الترابط الوثيق في المثل الذي ينقله متّى (18: 23-34)، في ما يُشبهُ "ملكوت السموات" كمثلِ "ملكٍ أرادَ أن يُحاسبَ خدمَه، فلمّا شرعَ في محاسبتهم أتى بواحدٍ له عليه عشرةُ آلاف وزنة (الوزنة = 34 كيلوغرام = 240 قطعة ذهبية، القطعة الذهبية الواحدة توازي 25 ديناراً رومانيًا، الوزنة = 6 آلاف دينار ويكون مجموع الدين 60 مليون دينار*) ولمْ يكنْ عنده ما يؤدّي به دَيْنَهُ، فأمرَ مولاه أنْ يُباعَ هو وامرأتهُ وأولاده وجميعُ ما يَملِكُ ليؤدّي دَيْنَه. فجثا له الخادمُ ساجدًا وقال: أمْهلني أؤدِّ لك كلَّ شيء". فأشفقَ مولى ذلك الخادم وأطلقهُ وأعفاه من دَيْنه. ولما خرج ذلك الخادمُ لقيَ خادمًا من أصحابه مديناً له بمئة دينار. فأخذَ بعُنُقِهِ يَخْنقُه وهو يقولُ له: "أدِّ ما عليكَ". فجثا صاحبُه يتوسَّلُ إليه فيقولُ: "أمْهلني أؤدِّه لكَ". فلمْ يَرْضَ، بل ذهبَ بهِ وألقاه في السجنِ إلى أن يؤدّي دَيْنَه. وشهد أصحابُه ما جرى فاغتمّوا كثيرًا، فمضوا وأخبروا مولاهم بكلِّ ما جرى. فدعاه مولاه وقال له: "أيّها الخادمُ الشرّير، ذاك الدَيْنُ كلُّه أعفيتُك منه لأنّكَ سأَلْتَني. أفما كان يجبُ عليكَ أنتَ أيضًا أن ترحمَ صاحبَكَ كما رحِمْتُكَ أنا؟" وغضِبَ مولاه فدَفعهُ إلى الجلاّدين، حتى يؤدّي كلَّ دَيْنه". ويُنهي يسوع بالأمثولة الروحية "هكذا يفعل بكم أبي السماوي، إنْ لم يَغْفر كلُّ واحدٍ منكم لأخيه من صميم قلبه".
يقولُ بولس (رومية 13/7) أدّوا لكلٍّ حقّه: الضريبة لمن له الضريبة، الخراج لمن له الخراج"، ويتابع: "لا يكونَنّ عليكم لأحد دينٌ إلا حب بعضكم لبعض" (رومية:13/8)

(*) يُظهرُ يسوع أهمّية دين هذا الملك لخادمه، وهو يوازي اليومَ نحو مليار ونصف مليار دولار، ليفيدَ بأنَّ الله يغفرُ لنا الكثير الكثير إذا عرفنا نحن أن نغفرَ القليلَ القليلَ.


الفصلُ الخامس عشر
اللامســاواة

الأرملةُ الفقيرة تُلقي أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة

يدعو يسوعُ في تعاليمه إلى إزالة الفوارق الاجتماعية بين مكوّني المجتمع المدني، ويسعى بمحبّةٍ لا متناهية إلى استعادة الفقراء والمرضى وأصحاب المهن التي يرذلها المجتمع اليهودي وأعيانه،  واسترجاع الخطأة ومناصرة النساء والأطفال، ليلعب الجميعُ دورهم في المجتمع الرافض لوجودهم.
كما أنّه على الصعيد الروحي، وفيما يؤكد انه "لم يُرسل إلاّ إلى الخراف الضّالَة من بني إسرائيل"، (متى 15: 24، ولو 11: 8)، أنعم على امرأةٍ كنعانية بشفاء ابنتها (متى 15: 24-28، مر 7: 24 -30)  وعلى خادم قائد المئة الروماني ( متى 8: 5-13، ولو 7: 1-10)، بنعمة الشفاء ملتفتاً إلى الأمم بعد أن قاربَ المساواة وعدم العداوة بين اليهود والسامريين، فالتقى المرأة السامرية، (يوحنا 4: 1- 28)، وشبّه القريبَ بالسامري الصالح (لو 10: 30 -37).
لكنّ هذا الالتفات إلى الفئات الاجتماعية المضطهدة والمحرومة أو الوثنية لم يلغِ الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المؤمنين، لا بل ركّز عليها يسوع كواقعٍ لا يمكن تفاديه. واستخدم  في أمثلة الإنجيل التي ضربها، مفاهيم عن عدم المساواة بين الناس، عدم مساواة في الملكية  مثل الغني ولعازر، (لو 16/19 -31)، عدم مساواة في دور المعلمين والأسياد من جهة والخدم والعبيد من جهةٍ أخرى، فـ"ما من تلميذٍ أسمى من معلمه، وما من خادمٍ أسمى من سيّده، فحسْبُ التلميذ أن يصيرَ كمعلمه والخادمَ كسيده" (متى 10: 24-25، يوحنا 13/ 16، 20/15، لوقا 40/5)، ولفتَ إلى اختلال بين الدائن والمدين ( مثل المداين عديم الشفقة متى 18: 21-35، ولو 17: 3-4) فضلاً عن الوكيل الخائن (لو 16: 1-12)، عدم مساواة في المفهومية والجدارة... وعدم مساواة في الجهد البشري. فمثلُ العمّال في الكرم وأجرتهم (متى 20: 1-30) يساوي في الأجر لقاء جهدٍ غيرَ متساوٍ في العمل.
لكن يسوعَ، في المقابل، يطلبُ ممن أُعطي كثيراً أن يُعطي كثيراً، كما في مثل الوزنات (متى 25 : 14-30) والأَمْناء (لو 19: 11-28)، وهنا تبرز الحسابات الاقتصادية، لذا يثمّن يسوع عطاء الأرملة فلسين بأنه  أكثر عطاءً من تقدمة الاغنياء.
يروي إنجيلُ مرقص (41:12-44) كيف "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يُلقي الجمع ُ في الخزانة نقوداً من نحاس، فألقى كثيرون من الأغنياء شيئاً كثيراً. وجاءت أرملةٌ فقيرةٌ فألقتْ عُشْرَين أي فلساً (أصغر النقود المتداولة). فدعا تلاميذه وقال لهم: "الحق أقول لكم إنَّ هذه الأرملة الفقيرة ألقتْ أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأنهم كلّهم ألقوا من الفاضل عن حاجاتهم، وأمّا هي فمن حاجتِها ألقت جميع ما تملك، كلٍّ رزقها".
يُركّزُ مرقس في إنجيله عند سلوكية يسوع: "جلس تجاه الخزانة"، "نظر كيف يُلقي الجمعُ في الخزانة" و "نقوداً من نحاس". أي أن يسوع قصدَ معرفة الطريقة التي يُلقي كلُ واحدٍ من الواهبين تبرعاته في الخزانة. لم يتطرق إلى الكميّة التي تبرعوا بها، بل إلى الطريقة وهي طريقة الحب، وتخلّي المرء عمّا يحتاج، بل كل ما عنده من مال، مثل "الأرملة الفقيرة". وكانت الخزانة في شكل بوقٍ نحاسي تصدرُ صوتاً بحسب ثقلِ النقود النحاسية. لذلك وصّفَ إنجيلُ مرقس النقود بـ"النحاسية"، لتصدرَ صوتاً فيلتفت الحاضرون ليثمِّنوا عطايا كلّ متبرّع، وما كان لفلسي الأرملة الفقيرة صوتٌ يرنُّ في الخزانة بل أثرٌ في قلب يسوع.   
 يأتي المثل بعد ويلات يسوع للفريسيين والكتبة، فالويل لهم لأن  قلوبهم مملوءةٌ رياءً على رغم معرفتهم الكاملة بالكتاب والعلوم الدينية، أمّا هذه المرأة فهي غالباً لا تعرف شيئًا لكن قلبها مملوء حباً. هم أغنياء جشعين يأكلون أموال الأرامل وهي تعطي من آخر ما تملك، هم يطالبون الآخرين بالعطاء ليغتنوا هم. وهي تعطي وهي الفقيرة. هنا مقارنة بين المرأة ومعلمى الشعب(متى 23: 13 – 32، لو 11: 39 -48)، ومن الويلات الدالّة على شؤون حياتية – اقتصادية، "الويلُ لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم تؤدون عُشْرَ النعنع والشّمرة والكمّون (سبق للفريسيين أن عمّموا تأدية العُشْر التقليدية على أصغر محصولات الأرض – تثنية 14/22)، بعدما أهملْتم أهمَّ ما في الشريعة، العدل والرحمة والأمانة،... الويلُ لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنّكم تطهّرون ظاهر الكأس والصحن، وداخلها ممتلئ من حصيلة النهب والطمع".
وفي اللوحة الاقتصادية المتناقضة عند يسوع أن الغنيَّ أيضاً في هذه الأرض أخذ نصيبه كما في مثل الغني ولعازر، لكنّه في الحياة الأبدية كان يشتهي أن يرطّبَ لسانه بقطرة ماء بينما يتنعم لعازر في أحضان إبراهيم.

ما يهمُّ يسوع، أنْ يسودَ العدلُ والرحمةُ والأمانةُ، فتُلغى الفوارقُ الاجتماعيةُ، لأنَّ المطلوب تحقيقَ عوزِ الفقراء، وليسَ إثراءهم. المطلوبُ الاهتمامُ بشؤونهم بمحبّة وفي الخفاء.

هامش
تناول المونسونيور بولس فغالي الأمثال الإنجيلية عند نرساي، واخترنا هنا " الينبوع الحي - نرساي، أمثال إنجيلية"  - المثل الثالث – لعازر والغني وفيه:
"تأمّل نرساي في مثل لعازر والغني (لو 16: 19- 31)، فابتعد عن حرفيّة النصّ ليقدّم سحبات غنائية يطرح فيها الظّلم الذي يصيب المساكين، وعدالة الله في الآخرة. بعد كلام عن الرموز والمعاني (1- 34)، رسم صورة الغنيّ وصورة المسكين (35- 65)، وتوقّف عند وجه الغنيّ (57- 90) قبل أن يعود إلى وجه المسكين (91- 112)، كما في النصّ الانجيلي. وتوسّع الشاعر في الكلام عن جهاد لعازر (113- 136) ثم عن تنعّم الغنيّ (137- 154)، فاستخلص تأمّلاً في اللامساواة في هذه الحياة (155- 183). وغاص يبحث عن المعنى الخفيّ،  ليتوقّف عند الغني وما يمثِّل (201- 224) من كبرياء، والفقير (225- 262) وما يمثّل من صبر وشجاعة وثبات. وطرح موضوع الموت والآخرة (263- 282) مع رعدة للاغنياء وراحة للمساكين: نال الغنيُّ العذاب (283- 310) مع أنه توسّل إلى ابراهيم (311-( 342- جاء جواب ابراهيم قاسياً (343- 364) حتّى بالنسبة إلى اخوة الغنيّ (365- 406( الذين يجب أن يسمعوا لموسى والأنبياء. أما العبرة من المثل فجعلتنا بين الواقع والرمز (407- 438)، وهيّأتنا لتطبيق المثل (439- 460) ولفهم عدالة الله (461- 479) وحكمته (480- 506) التي تعمل كالفلاّح والطبيب. وتنتهي القصيدة (507- 525) بإرشاد يدعو السامعين إلى حمل الثمار الصالحة".


الفصلُ السادس عشر
الميراث – الإرث

فإذا ذهبتَ مع خصمكَ إلى الحاكم،
 فاجتهدْ أن تُنهيَ أمْركَ معه في الطريق

لم يرغب يسوع في أن يسنَّ تشريعاتٍ وقوانين، بل أراد أن يُهديَ الناسَ إلى الإيمان، والمؤمنين إلى العيش في بيئة سلام أو مجتمعٍ يتكافل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية تحت فضاء أكبر وصيّة وتالياً الوصية التي تشبهها ألا وهي المحبة أو الحب. فقياس السلوك الاجتماعي وتالياً الاقتصادي بموجب "شريعة الحبّ"، يُسقطُ الحاجةَ إلى تشريع قوانين وسنّها. كما أنّ يسوع قال "ما جئتُ لأنقضَ بل لأكمّل"، فإذا لم يحتكمْ المرءُ إلى الحبّ بل يلجأ إلى القضاء، فالقوانينُ موجودة، لكنّ يسوع يدعو المتخاصمين إلى حلّ مشاكلهم وهم في الطريق، "فإذا ذهبتَ مع خصمكَ إلى الحاكم، فاجتهدْ أن تُنهيَ أمْركَ معه في الطريق، لئلاّ يسوقَك إلى القاضي، فيسلمّك القاضي إلى الشرطي، ويُلقيك الشرطيُّ في السجن. أقولُ لك: لن تخرجَ منه حتى تؤدي آخرَ فلسِ". (لو12:57-59، متى 5: 25 -26)، وذلكَ في جوابِ يسوع على سؤالٍ ألقاه: "ولِمَ لا تحكمونَ بالعدلِ من عندكم؟ " في ما يعرضه من واجبٍ للمحبة الأخوية التي تفرض المصالحة مدنياً، فكيف إذاً روحياً قبل الدينونة؟
ينقلُ لوقا في مثل الغني الجاهل (12: 13 – 20) ما يُفيدُ بأن يسوع يدعو إلى الميراث الأبدي، ولا تهمه خيراتُ الدنيا إلا في ما تؤدي وظيفة "فيزيولوجية" حياتية. فعلى غرار لجوء الناس إلى الربانيين ليحكموا في قضاياهم، قال له رجلٌ من الجمع: " يا معلّم، مرْ أخي بأن يقاسمني الميراث". فأجابه يسوع: "يا رجل، من أقامني عليكم قاضياً أو قسّاماً"؟ ما يعني أن يسوع رفض أن يتولّى مهمّة زمنية، فميّز نفسه عن موسى الذي نصّبَ نفسه رئيساً وحاكماً (خروج 2/14 ورسل 7/27-35). (1) كتاب مقدس – العهد الجديد – صفحة 237 – حاشية.
 وأضاف يسوع :" تبصّروا واحذروا كلَّ طمعٍ، لأن حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله". ففي الحذر من الطمع وتفاديه يصل المرء إلى حقّه في اقتسام الميراث أو الأموال او أي نوعٍ من الخيرات. ويُتبِعُ يسوع جوابه للرجلِ السائل، بمثل "الغني الجاهل"، الذي يُراكمُ غلّته "لسنين طويلة" لكن الموت لم يستبقهِ ولا ليلة. "فقال له الله: يا غبيّ، في هذه الليلة تُستردُّ نفسك منكَ، فلمن يكونُ ما اعددته؟ فهكذا يكونُ مصيرُ من يكنزُ لنفسهِ ولا يغتني من عند الله".
 لا يمكن في تعاليم يسوع أن نسلخَ الروحيّ عمّا يعلّم ويوصي، بلْ نجدُ في تعاليمه رموزًا اقتصادية وأمثالاً تسهّلُ فهم الأمور الروحية. وتقضي في الوقتِ ذاته بتسهيل الحياة الاقتصادية اليومية وفي دائرة الجماعة المؤمنة.
لكنّ يسوعُ يصدم في قضايا الميراث، على نحو ما عرضَ في مثل "الإبن الضال أو الشاطر" (لو 15:11-32) ومثل "الكرّامين القتلة" (متى 21: 33-46، ولو 20: 9-19، ومرقس 12: 1-12)
وينصُّ مثل "الابن الضال"، الذي ينفرد به لوقا الإنجيلي، على طلب الميراث قبل أن يُتوفّى "الأبُ"، إذ قال له أصغرُ ابنيه: "يا أبتِ أعطني النصيبَ الذي يعودُ عليَّ من المال. فقسم ماله بينهما".
وتطرح مقدّمة المثل إشكاليات أهمها:
1 – إمكان طلب اقتسام الميراث في حياة الأب.
2 – ما إذا كان اقتسام الميراث يعني المناصفة أو المساواة في الحصص. فالنصوص تذكر فقط: "أعطني ما يعودُ لي من الميراث"،أي بحسبِ قوانين ذلك العصر.
فطبيعيٌّ أن يُجري آباءٌ توزيعَ ما يملكونَ من أموالٍ (منقولة وغير منقولة) على أولادهم، أو يخصّون ورثة آخرين، وهم على قيد الحياة. ولا يزال الأمرُ معمولاً به وفي مختلف الشرائع. 


لا تولِّ على نفسكِ في حياتكَ ابنَكَ أو امرأتكَ أو أخاكَ أو صديقكَ، ولا تُعطِ آخرَ أموالكَ لئلا تندم

ويحذّر ابن سيراخ من توزيع الأموال على الأبناء خلال حياة الآباء فيقول: "لا تولِّ على نفسكِ في حياتكَ ابنَكَ أو امرأتكَ أو أخاكَ أو صديقكَ، ولا تُعطِ آخرَ أموالكَ لئلا تندم فتتضرّع إليه بها. ما حييتَ وما دامَ فيكَ نَفَسٌ لا تسلِّم نفْسك إلى احدٍ من البشر. فلأنْ يطلبُ أبناؤكَ منكَ، خيرٌ من أن تنظرَ أنتَ إلى أيدي أبنائك. وفي جميع أموركّ كن سيّداً ولا تُلحق عيباً بسمعتكَ. عند انقضاء أيّام حياتكَ وفي ساعةِ مماتكَ قسّم ميراثكَ" (سي 33: 20-24).
ويُلفت موقع Lexamoris  الإلكتروني إلى ان سفر طوبيّا يلحظ الآتي: "ثُمَّ خُذْ مِن هُنا نِصْفَ ما عِنْدي وعُدْ سالِماً إِلى أَبيكَ. وأَمَّا النِّصفُ الثَّاني فيَصيرُ لَكَ بَعدَ مَوتي ومَوتِ امرأَتي" (طو 8: 21). " فقسمة الميراث تعني أن يضع الأبُ نفسه تحت سلطة أبنائه، وهو ليس بالأمر الحكيم في المجتمعات القديمة.
ولم تكن القسمة بحسب شريعة موسى، تتمّ بتوزيع الحصص بالتساوي بين الأبناء، بل كان يحقّ للإبن الأكبر بثلثي ميراث أبيه. ويبدو من خلال نّص لوقا أن ميراث الأكبر لم ينتقل اليه حكماً بسبب القسمة، بل بقي الأب هو المسلّط عليه، وذلك لأن الميراث الأكبر المنتقل بالقسمة لا بموت الأب يصبح ملكاً للابن، إنّما يبقى في تصرّف الوالد لغاية الوفاة، أي أن الإبن يصبح المالك أمّا الوالد فالمستفيد من المال. ما يعني حالياً أن استثمار الأملاك يبقى للأب في حياته".
ويُلفتُ لوقا إلى ردّة فعل الابن الأكبر لدى عودة أخيه فارغ اليدين، فهو لم يدخلْ بيتَ أبيه يقول لوقا: "فغضبَ وأبى أن يدخل". ويعتبر الموقع "أن ردّة فعل الإبن الأكبر تجاه عودة الأصغر مردّها الى أن الأكبر شهد على القسمة، وأخذ الأصغر الميراث وبدّده (أكلَ مالكَ مع البغايا)، بينما بقي الأكبر بمعيّة الأب يدير شؤون أمواله. ولدى عودة الأصغر خالي الوفاض فارغ اليدين من الأموال التي اقتنصها من ابيه، استقبله والدُه مجدّداً وألبسه الخاتم، علامة المشاركة في الأملاك. فغضَبُ الإبن الأكبر كأنّه فهم أن ابيه يجعل من الأصغر شريكاً في الميراث من جديد، ويكون له الحقّ بثلث أملاك الأكبر مجدّداً".  لكن جواب الأب بحسب لوقا إلى ابنه الأكبر كان: "يا بُنَي، أنْتَ معي دائماً وأبداً وجميعُ ما هو لي فهو لكَ. ولكنْ قد وجُبَ أن نتنعّمَ ونفرحَ، لأن أخاكَ هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد".
 لمْ ينقض يسوع شريعة للميراث في العهد القديم، تقول إن الرجل والمرأة متساويان في الأنصبة تمامًا. ( سفر العدد 27 / 7)




الفصلُ السابع عشر
متفرقــات

اتحاد
نتجتْ الوحدة الأخوية التي جمعت بين المسحيين الأوائل، عن إيمانهم المشترك بيسوع، وعن رغبتهم جميعًا في تشبههم به، وعن محبّتهم له التي تترتّب عليها بالضرورة محبتهم المتبادلة: "فقد كان لهم قلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدة" (أعمال 4/32). هذا الاتحاد تحقّقَ في المقام الأول لدى كسرِ الخبز (2/42)، ثمّ تُرجِمَ داخل كنيسة أورشليم بالمشاركة في الأموال (4/ 32 إلى 5/11)، ثمّ بين الجماعات القادمة من الوثنية وجماعة أورشليم، وعندَ جمع التبرعات التي يوصي بها بولس في رسائله (كورنتس الثانية 8 إلى 9 – روما 12/13)، وبمناسبة المساعدة المادية المقدّمة إلى الإنجيل.




الأرامل

اعتبرتْ الأرملة مثل اليتيم والغريب في العهد القديم، وكانت موضع حمايةٍ بموجب الشريعة (سفر الخروج 12: 20 – 23، تثنية الاشتراع 14: 28 – 29، 24: 17 – 22)، ومن جهةِ الله (تثنية 10: 17 – 18) الذي يسمع شكواها (سيراخ 35: 14 – 15) ويقيمُ نفسه مدافعًا عنها ومنتقمًا لها (مزمور 94: 9 – 10) فويلٌ لأولئك الذين يستغلّون ضعفها (إشعيا 10/2).
حذّر يسوع من الكَتبة لأنهم "يأكلون بيوتَ الأرامل" (مرقس 12/40)، وهو أقام من الموت ابن الأرملة الوحيد (لوقا 7: 11-15)، وعهد بأمّه مريم إلى التلميذ الحبيب يوحنا (يوحنا 19: 26 -27). *
ويضع بولس نظامًا مثاليًا للأرامل في آخر حياتهنَّ، يتلخّص  في الصلاة والعفّة والأعمال الخيرية.  بينما يسمح بالزواج الثاني للأرملة الشابّة بل يتمنّاه (كورنتس 7: 9 و39)، تجنّبًا للانحراف.
(*) يُستفاد من إنجيل يوحنا أمران:
1 – أنّ يسوع لم يكن لديه أخوة، بخلاف ما يُفسّر غيرُ المؤمنين مفردة "أخوته" الواردة في الإنجيل، على أنّهم أبناء يوسف ومريم.
2 – أنّ يوسف كان توفّي قبل صلب يسوع.
ولولا ذلك لما عهد يسوع بأمّه إلى يوحنّا. 

























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق