ميشال مرقص
يُشبهُ ملكــوتَ الله
الإقتصادُ في الإنجيل
"حرّيةٌ في الإنتاجِ وشركةٌ في الإنفاق"
2011
ريعُ مبيعات الكتاب بكامله
مخصّص إلى المحتاجين
"كلّمتكُمْ في شؤون الأرض ولا تؤمنون،
فكيفَ تؤمنون
إذا كلّمتكُمْ في أمور السماء" ؟
يوحنا (3/12)
"إننا نعيش أيامًا نعرفُ أن الكثيرين من اللبنانيين قد اشتدّت فيها عليهم الضائقة، بحيثُ بات يتعّذرُ عليهم تأمين معاشهم اليومي. وإذا كان زمنُ الصومِ هو زمنُ التقشّفِ وأخذِ النفس بالشدّة، فهو أيضًا زمنُ الإحسان، والمسارعة إلى نجدة الفقير. ومقاسمته الخبز اليوميّ، على ما جاء في الكتاب المقدّس في معرض كلامه عن الصدّيق، وقد وصفه بقوله إنه هو ذاك: "الذي لم يعسف أحدا، وردّ على المديون رهنه، ولم يختلس خلسة، وأعطى خبزه للجائع، وكسا العريان ثوبًا، ولم يعطِِ بالربى ولم يأخذْ ربحًا، وكفَّ يدُه عن الإثم، وأجرى قضاءَ الحق بين الإنسان والإنسان، وسلك في رسومي، وحفظ أحكامي، عاملا بالحقّ، فبما أنه صدّيق يحيا حياةً، يقول السيد الرب".
الكاردينال مارنصرالله بطرس صفير
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
من رسالة الصوم – 15 شباط 2007
الاقتصادُ في الإنجيل
مدخل إلى مملكة الله
مدخل إلى مملكة الله
الأنظمة الاقتصادية وحماية الفقراء
خلال نصفَ قرنٍ من عملي الصحافي في مواضيع الإنماء المديني والريفي وفي الاقتصاد عامّةً، سواء على صعيد لبنان، أو على صعيد المنطقة العربية والعالم، توقفتُ أمام الآلام والمآسي التي تتسبَّبُ بها الاختلالات الاجتماعية الناتجة عن فوارق في المستوى الاقتصادي، وعن قصور المدارس الاقتصادية العالمية ونظرياتها، على اختلافِ مشاربها ما بين الحرية المطلقة والشيوعية المتشدّدة، في ردمِ الهوّة السحيقة بين الفائض عن احتياجات الفرد والجماعة من جهة، والفقر المدقع حتى البؤس الاجتماعي القاتل من جهةٍ أخرى.
وتشهدُ منظماتٌ تابعة لهيئة الأمم المتحدة، تتقدَّمُها مجموعة البنك الدولي ومنظمة الزراعة والأغذية (فاو)، وما يرتبط بالأخيرة من صناديق وهيئات دولية مساعِدة، على اتساع رقعةِ الفقر وازدياد عدد "المنتسبين" إلى "هويته". وتدعو منظمة الأمم المتحدة مطلعَ الألفية الثالثة، الأعضاءَ فيها إلى مكافحة الفقر في ما يُعرف بأهداف الألفية الثالثة، الرامية إلى تقليص أعداد الفقراء إلى النصف في حلول عام 2015.
إلاّ أنّ عوائق تواجهُ مكافحة توسع الفقر، أهمّها على الإطلاق الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي اندلعت في شكلٍ واسع منتصف 2008 وتمدّدت إلى ضفتي الأطلسي لتطال الولايات المتحدة وأوروبا بكاملها مع استثناءات طفيفة، وتدفعُ دولٌ صاعدة ونامية وفقيرة أثمانًا متفاوتة لها.
وبعيدًا عن أسباب تلك الأزمة، لم يتوقف الجشعُ الاقتصادي منذ أن كانَ الإنسان، عن مسيرته في بناء أمبرطوريته الواسعة، معتمدًا "شريعة الذئاب أو الغاب" أو "شريعةَ عالمَ البحار"، حيثُ الكبيرُ يأكلُ الصغير وينتصرُ القويُّ على الضعيف فيغتصبُ حقوقًا ليستْ له.
كتبتُ مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة عن ... "تحديات" (جريدة "الحياة" السعودية – 4 كانون الثاني 2010) تواجه العالم، في وصفٍ عن الفورة المالية التي انتهت بكارثة اقتصادية عالمية فقلتُ: " منذ سنوات، بدأ اقتصاديون وسياسيون يروّجون لنهاية عالم ممعنٍ في الهرَمِ والقِدَم، مبتذل أمام المبادرة الفورية، وتجاه جيل الـ «ويب» والإنترنت وأموال العولمة. ويتوقعون إلغاء الحدود التاريخية والجغرافية أمام الاقتصاد وتغيير مقاييس العالم، بحيث «تقضم» الدول الكبرى ذات البنية الاقتصادية الأساسية، المناطق المتخلفة. الدول كانت أصبحت عاجزة. كثيرٌ منها راهن على انصهار الأمم في العولمة. وفي الإجمال، نادراً ما تطوَّرت عملية بمثل ما توسَّعت العولمة لنزع السياسة عن الاقتصاد والاجتماع والثقافة والجيوسياسة، فتمدّدت بثبات وقياس عال. ثم حدث الانهيار المنسّق لنظام التراكم المالي الجديد،- الذي بدأ يتوسع منذ 1975 – 1980-، بسبب أزمة الرهون العالية الأخطار وأزمة المال مع انهيار المصارف، ما تسبب بأزمة اقتصادية وشلل في الإنتاج والتبادل التجاري، اجتاحت أقطار العالم.
تُرجمتْ القدرة في نظام التراكم المالي الجديد، الهادف إلى اجتذاب الأموال لصالحه، بتمدّد كبير في مخزون رأس المال وانفجار تدفقاته في التداول. ففي 2005 كان يمكن تقدير هذا المخزون بـ 242765 مليار دولار، أكبر من الناتج العالمي بـ5.5 مرات بحسب مصادر بنك التسويات العالمي ( بال - سويسرا). وبين 1990 و2007 تضاعف الترسمل المالي في البورصات العالمية بنحو 6.8 مرات ليصل إلى 60874 مليار دولار، توازي 174 في المئة من الناتج المحلي العالمي. انفجرت سوق القطع عند 34855 مليار دولار، وتضاعفت سوق الالتزامات (الديون) لتُضْرَبَ بـ4.7 وتبلغ 15155.8 مليارًا.
عند هذا الجزء التقليدي من النمو الفائق الوصف، يبرز دور تعددية الابتكارات المالية الفائقة التطور أكثر فأكثر، وأهمها الأدوات المشتقة المتسلسلة الرهون والفوائد. ففي حزيران (يونيو) 2008 قدّر بنك التسويات المالية رأس المال المتحرك بـ20353 مليار دولار، توازي 37.5 في المئة من الناتج العالمي، والسندات المغطاة بهذه العمليات بـ 683725 مليارًا توازي 11 مرة الناتج العالمي. وفي 2007 قدرت المنتجات البديلة التي حوّلت إلى سندات عالية الأخطار بما يوازي 14 ألف مليار دولار.
في هذا الثقب الأسود الحقيقي للمال العالمي، وحدها «مبادلة الديون» شكّلت ضمانات على القروض أو السندات، وقدرت بـ62 ألف ملياردولار، أو ما يوازي 4.5 مرات الناتج المحلي للولايات المتحدة و88 في المئة من الناتج المحلي العالمي.
في اختصار، حرّك النظام الجديد لتراكم الأموال في 2007 ثروة توازي بين 7 و9 مرات الناتج المحلي العالمي. لكنه انهار مثل قصر من الكرتون في أزمة منهجية بين خريف 2007 ومنتصف 2009، انطلاقاً من قطبي الجاذبية التاريخيين الولايات المتحدة وبريطانيا. وحصل في المقابل انهيار اقتصادي واجتماعي وإقليمي قاسٍ.
أحد الأمثلة الأساسية لهذه الأزمة النظامية العالمية – الأشد منذ عام 1929، والتي يمكن تقويم ثمنها بـ 55800 تريليون دولار،- يكمن في التدخل العام والكثيف للقوى العامة، أي الدولة وإداراتها منذ 2008، ما أنقذ النظام المصرفي من انهيارٍ مثير. نتائج هذه الأزمة تنسحبُ على العقد المقبل. الدَين العام لمجموعة العشرين وحدها سيرتفع من 30620 إلى 39300 بليون دولار (+28 في المئة) بين 2008 و2014 أي من 66 إلى 84.5 في المئة من الناتج المحلي للدول الأعضاء. ويمكن للدين الخارجي للولايات المتحدة أن يرتفع من 17500 بليون دولار أي 120 في المئة من الناتج المحلي الأميركي في 2009، إلى 23000 بليون في 2015 بزيادة 31.5 في المئة، محوّلاً أكبر قوّة في العالم إلى أن ترتبط أكثر فأكثر بمدى قدرتها على استقطاب الادخار العالمي. وتنتشر التوقعات اتساعاً، من تقديرات خسائر الاقتصاد العالمي نتيجة الانبعاثات الضارّة التي تؤثّر في المناخ فتبدله برفع درجات حرارته، ما يتسبب بكوارث بيئية، إلى توقعات صندوق النقد العالمي لعام 2014 بتعميق هوّة اللامساواة الاجتماعية، على رغم برنامج «مطلع الألفية» القاضي بالحد من الفقراء والجياع في العالم. فالأزمة وارتفاع أسعار منتجات الغذاء دفعت بعدد الجياع فوق مستوى المليار، فيما تتوقع منظمة العمل الدولية ارتفاع العاطلين من العمل من 180.2 مليون إلى 210 – 240 مليوناً.
ويواجه العالم خلال العقد الطالع تحدياتٍ كبيرة في مقدمها مكافحة اللامساواة، والبحث عن زراعاتٍ أخرى محتملة تعوّض اضمحلال الأراضي الزراعية وتحويل منتجات من الحبوب لاستخراج المحروقات الحيوية النظيفة، ومنها جعل الاقتصاد أكثر اخضراراً، وتطوير المجمّعات المدنية الكبرى لتصير متوافقة أكثر مع البيئة السليمة، أو التوسع في اعتماد المدن الإيكولوجية، والطاقة المتجددة، وتحقيق الاقتصاد المستدام الذي يؤمن مزيداً من فرص العمل، والسعي إلى إطعام ثلاثة مليارات نسمة إضافية في 2050".
هذه التوقعات تجعل العبء الاقتصادي على الأفراد والجماعات والمجتمعات مفرطًا في الثقلِ، ما لمْ تتبدّل سلوكيات الناس تجاه بعضهم، - ليس من ضمن نظرياتٍ اقتصادية تحدّدها ظروفٌ زمنية ومكانية، تتوافق واحتياجاتٍ محدّدة ظرفية، تتعلّقُ بدورها بمصالح فئات وأحزاب وفرقاء في الحكم والسياسية -، بل يعتمدون المنهجية الأخلاقية في بناء مجتمعاتهم.
الأخلاقية الإنسانية والأخلاقية الروحية
لمْ يخلُ العالم من أفرادٍ دفعهم الواقعُ المرير لمآسي الناس، إلى الاهتمام بهم. لكن بعض هؤلاء ينتهجُ ما يُسمّى "إنجيلَ الثروة"، يبرِّرون الوسائل في جمع ثرواتهم واكتنازها، ومن ثمَّ يخصصون جزءًا منها لمساعدة المحتاجين وأعمال الخير. للأسف يبحثُ هؤلاء عن جزاءٍ مادي على الأرض. آخرون منهم يُشيِّدون أبنيةً دينية ومقامات ومراكز لأعمال البر ويتركونَ لوحاتٍ تُشيدُ بهم. وإذا كان يسوع يدعو إلى "اكتسابِ الأصدقاء بالمال الحرام"، فإنما يدعو في المقابل إلى التوقّف عن كسْبِ هذا المال الحرام، وإلاّ لا مبرِّرَ لدعوته. إلاّ أنّ فعل الخيرِ العلني قدْ يأتي بنتائج فيدفع بآخرين إلى التجاوب مع أعمال البرِّ.
في هذا المجال يبرز في صورةٍ علنية أو غير علنية آخرون يخصِّصون أموالهم لأعمال البرِّ والإحسان في شكلٍ برامج تهدفُ إلى انتشال الفقراء من الجوع، أو في شكلِ هباتٍ، أو في شكلِ مساعداتٍ مباشرة إلى المرضى والمُعْوزين والمحتاجين وذوي العاهات تتقدمهم الأم تيريزا ورهبنيتُها.
وبعيدًا عن الاختلاف الديني أو المذهبي، كان محمد يونس في باكستان رائدًا في تأسيس مصرفٍ "غريمن بنك"، لتأمين القروض المجهرية، في شكلٍ منتظم إلى فقراء. ما أنقذ عشرات الآلاف من فقرهم وانتشلهم من بؤسهم فاجتازوا خط الفقر والجوع في بلادهم، وكانَ مثالاً لبلدان أخرى أسست مثل مصرف "غريمن بنك"، ووسّع الاقتصاد العالمي مثل هذه القروض على أساس إنشاء "المشروع الفردي"، ما يخفّف من حدّة البطالة والفقر.
من جهةٍ أخرى أسّس ثاني أثرياء العالم بيل غيتس مطلع الألفية الثالثة مع زوجته ميليندا "مؤسسةً خيرية" تحملُ اسمهما، تضاعف حجمها بانضمام ثري آخر هو وارن بافت في 2006. وتتمثّل الأهداف الرئيسة للمؤسسة على الصعيد العالمي في تعزيز الرعاية الصحية والحد من الفقر المدقع. وتهدف المؤسسة في الولايات المتحدة، إلى توسيع فرص التعليم والوصول إلى تكنولوجيا المعلومات. وهي نجحت في إنقاذ خمسة ملايين طفل من الموت المحتم ونجاة أمهاتهم أيضًا. وقدَّرت أملاكها بـ37.6 مليار دولار في تموز2007. وفي منتصف 2010 نجح وارن بافيت وبيل غيتس في إقناع أربعين من مليارديرات أميركا بالتبرع بالجزء الأكبر من ثرواتهم لصالح أعمال خيرية، في ما سُمِّيَ مشروع "وعد التبرع" .
وأكد بافيت أن "أربعين من أغنى أثرياء الولايات المتحدة أعلنوا استعدادهم للتبرع بالجزء الأكبر من ثرواتهم لأغراض خيرية". ومن بين المتبرعين إلى جانب بافيت وغيتس مايكل بلومبيرغ عمدة نيويورك وجورج لوكاس صاحب "حرب النجوم" و تيد تيرنر مؤسس قناة "سي أن أن" الإخبارية، إلى بارون هيلتون وريث سلسلة هيلتون للفنادق و رجل المصارف ديفيد روكفيلر. ولم يعرف بعد حجم التبرعات التي أعلن كل من هؤلاء استعداده لتخصيصها إلى المؤسسة. ويشترط أصحاب المبادرة على من يريدون الانضمام إليها، أن يتبرعوا بما لا يقل عن نصف ثرواتهم. ووصف بافيت الأمر بأنه: "ليس عقدًا قانونيا بل التزامًا أخلاقيا". أمّا بلومبرغ فبرر انضمامه إلى المبادرة بالقول: "إذا أردت أن تفعل شيئا لأبنائك وأن تعبّر لهم عن حبك فالأفضل على الإطلاق أن تساند هذه المنظمة التي تسعى إلى عالم أفضل لهم ولأبنائهم".
السعيُ إلى عالمٍ أفضل
أمام واجهة هذه الوقائع الاقتصادية، والاهتمامات الأممية والمؤسساتية والفردية للسعي إلى عالمٍ أفضل، يبقى النبعُ الأساس للحياة هو يسوع. ألمْ يقلُ هو نفسُه: "أنا نبعُ الحياة من يأتي إليَّ لا يعطشُ أبدًا". بما يعني أنَّ منْ يسمع كلمته ويعملُ بها يجد حياةً في الأرض هانئة ويخلّصُ نفسه فيرث الحياة الأبدية.
وخلافًا لما يُفهمُ من قصدِ يسوع أنَّ مملكته ليستْ منْ هذا العالم، فإنّه اهتمَّ بتنظيم الحياة الدنيا للمؤمنين بتعاليمه، فهو لمْ يقصد أن يكونَ ملكًا أو حاكمًا أو مسؤولاً دنيويًا يقودُ حروبًا ويحكمُ شعوبًا، بل أنْ يملكَ على قلوبِ الناس. وأن يحدَّدَ تاليًا مملكةً يعيشُ رعاياها على الأرض تحت مظلّة الحبِّ وبَذْلِ الذات عن الآخرين ومساعدتهم، ويتابعون ما بعد الحياة ليرثوا الحياة الأبدية. فعندما يقولُ يسوع: "ما جئتُ لأهدمَ بل لأبني"، أبقى على سلوكياتٍ وتعاليمَ سبق أنْ أُقرّتْ، كانتْ تُعنى بالفقراء والمعوزين، لكنّه أضفى عليها حلّةً جديدة، حلّة المحبّة، فباتَ عملُ الخيرِ والبرّ يخضع للرحمة وليس للظاهر فقط وللعطاء من دون محبّةٍ وعطفٍ واحترامٍ للروحِ الإنسانية والذات البشرية.
وضعَ يسوعُ نظريّةً اقتصادية تتجاوزُ في مقوّماتها حدود الزمان والمكان، بلْ تصلحُ في كلِّ زمانِ ومكانٍ، تجدُ إشعاعها الكونيَّ في قلوب المؤمنين. ليسَ صحيحًا بالنسبةِ إليه أنّ "منْ لهُ يُعطى ويزاد"، بلْ منْ "يُعطِ" أيضًا ينلْ عوض الواحد مئة. أرادَ يسوع كي نستثمرَ في العطاء، أن نستثمرَ في المحبّة، إذا كنّا أغصانًا في كرمته ذوي ثمارٍ لا تلتهمنا النارُ بل نُقَضَّبُ لنثمرَ أكثر.
الاقتصادُ في الإنجيل، تعاليمُ يسوع في كيفَ يجب أن نسلكَ في هذه الحياة لنربح ملكوتَ السماء. يتلخّص بالمحبة، بالعطاء من دون حساب، بمساعدة الضعيف جسديًا أو تعزيز مكانته في المجتمع. ألم يأتِ هو لينصر الضعفاء والمرضى والنساء والأطفال والخطأة الذين نبذهم المجتمع في أيامه؟ ألمْ يخترْ تلاميذه من بين أصحابِ المهنِ الوضيعة؟ ألمْ يقلْ إنّه اختار الضعفاء ليخزي الأقوياء والجهلاء ليخزي العقلاء ؟ إنّه الله المتجسّد في يسوع يُعلّمنا كيف يجب أن نعيشَ من ضمن مسلّمة اقتصادية: "حرّيةُ الإنتاج وشركةُ الإنفاق"، من دونِ أن تشوب الإنتاجَ شائبةٌ غير أخلاقية وأن تفتقر الشركةُ في الإنفاق إلى المحبة.
ليسَ بالخبزِ وحده يحيا الإنسان
قبلَ أن يباشرَ تعليمه الخلاصي، وإثرَ الانتهاء من صومه، أكَّدَ يسوع "للمجرّب" أنَّ الإنسانَ وإن كان يحيا بالخبزِ، إنما يحتاجُ إلى العملِ بكلمة الله ليحيا كاملاً. وتوازنت التجاربُ الثلاث بين ما هو جسدي مادي: الخبزُ وحكمُ الممالك، وروحي: كلامُ الله والسجودُ له وحده والنهي عن تجربته، (عصيانُ كلام الله لاختبار مدى صبره أو استغلال رأفته لمنافع شخصية كما في العهد القديم – حاشية الكتاب المقدس العهد الجديد صفحة 44).
فيسوع لم يميِّز بين احتياجات الحياة الدنيا واحتياجات الحياة ما بعد الموت، بل رسمَ أخلاقيات الحياة الدنيا بهدف الاكتناز في ملكوت الله. وهو بطبيعته البشرية المتجسدة في إنسانه، عاش في شكلٍ طبيعي، كان يجوع ويعطش ويصوم فيأكل ويشرب ويلبّي دعوات إلى المآدب والولائم، ويخطُّ في حياته نموذجًا للإنسان المؤمن من بعده.
من هذا المنطلق، وضع يسوعُ سلوكياتٍ للعيش وأخلاقياتٍ للتعاطي بين جماعة المؤمنين، أو بين الناس. فتعاليمُ يسوع تشملُ أيضًا "الدين والدنيا"، من دون التعاطي في السياسة أو "اشتهاء" الحكمِ السياسي. هذا شأنٌ آخر.
في إطار هذا الموضوع قاربتُ، بصفةٍ مدنية فقط، المفهوم الخاص بالاقتصاد من خلال تعاليم يسوع، مستعينًا بقراءات أخصّائيين ولاهوتيين ورجال دين وعلماء، وتبنّي مفاهيمهم بصورة كاملة في بعض المواضيع، ومعارضة بعض المفاهيم والشروحات التي توقفت عند المغزى الروحي فقط، ولمْ تتعدَّ البُعدَ الاقتصادي من جوانبه الظاهرة في شكلٍ مباشر إلى الجوانب غير المباشرة كما في مثل الكرّام والعاملين لديه، وفي أسباب لعنِ يسوع للتينة التي يبست. أو تجاوزًا في المقارنة بين كفتي الميزان في قول يسوع: "أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله".
إقتصادُ الجماعة
اقتصاد الجماعة
جعتُ فأطعمتموني وعطشتُ فسقيتموني
ينقلُ الإنجليُّ متى عن يسوع، في الفصل 25 من الآية 31 إلى الآية 36، وتحتَ عنوان "الدينونة العظمى" في "الكتاب المقدّس"، قولَ يسوع واصفًًا تلك الدينونة : "وإذا جاءَ ابنُ الإنسانِ (يسوع) في مجده، تواكبُهُ جميعُ الملائكةِ، يجلسُ على عَرْشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لديهِ جميعُ الأمم، فيفصلُ بعضَهم عن بعض، كما يفصِلُ الراعي الخِرافَ عن الجِداء. فيُقيمُ الخرافَ عن يَمينه والجِداءَ عن شِمالِه. ثمَّ يقولُ الملكُ للذينَ عن يمينه: "تعالوا، يا مَنْ باركهم أبي، فَرِثوا الملكوتَ المعدَّ لكم منذ إنشاءِ العالم: لأنّي جعتُ فأطعمتوني، وعطشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعُريانًا فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليّ". متمّمًا وموضحًا أنَّ "كلّما صنعتم شيئًا من ذلكَ لواحدٍ من إخوتي هؤلاء الصِّغار (كل إنسانٍ محتاج)، فلي قد صنعتموه"، بخلاف الذين عن شِماله، الذين لعنهم لأنهم لم يفعلوا ما فعلَ "أهلُ اليمين"، فهم إلى "النار الأبدية... حيثُ العذاب الأبدي"، لأنّي، كما يضيفُ يسوع في الآيتين 42 و43 "جُعتُ فما أطعمتوني، وعطِشتُ فما سقيتموني، وكنتُ غريبًا فما آويتموني، وعرْيانًا فما كسوتموني ومريضاً وسجينًا فما زرتموني". لأنّكم (الآية 45)، "أيّما مرّةٍ لم تصنعوا ذلكَ لواحدٍ من هؤلاء الصِّغار فلي لم تصنعوه".
ويعتمد يسوع في "الدينونة العُظمى" المقاييس الاقتصادية والاجتماعية بين الجماعات المؤمنة، كوسيلةٍ للخلاص الأبدي. لم يتحدّثْ هنا عن مخالفات للوصايا أو تجاوزات للشريعة، بل أوصى بطريقةٍ غير مباشرة بالتعاطف والتنازل عن بعض الثروات إلى الجائعين والعطشين والعريانيين والغرباء، حتى لا يعودَ جميعُهم غرباء عن مجتمعهم. فالمقصودُ بالغريب هنا، الذي كانَ يأتي من بلاد أو أمكنةٍ بعيدة ولا يجدُ له مأوى في زمن يسوع. والغريبُ أيضًا من لا يمتُّ بصلةٍ إلى الجماعة أو الأفراد، فلا يتصرّفُ معه هؤلاء كواحدٍ منهم. لكنَّ الأحوال تبدّلت مع تطوّر الحضارة. إذ في الوقتِ ذاته، يشعرُ الجائعُ والعطِشُ والعريانُ بغربةٍ في مجتمعهم وفي ما بين أهلهم، لأنهم لا يملكون من الثروات ما يملكه أولئك، وحتى أنّهم لا يستطيعون أن يؤمنّوا قوتَ يومهم. فهم يحتاجون إلى طعام وماء وكِساء ومأوى وطبابة ورعاية وغيرها.
والاهتمام بهؤلاء "الغرباء" "القريبين"، لا ينبع إلاّ ممّن أحبَّ أخاه أي قريبه، وبالإسقاط البعيد جميع الناس. فالسامري (لوقا 10: 30 – 37)، هو الأقرب إلى اليهودي الذي "عرّاه اللصوص وانهالوا عليه بالضرب. ثمَّ مضوا وقد تركوه بين حيٍّ وميت"، لأنه "أشفقَ عليه، فدنا منه وضمّد جراحه، وصبَّ عليها زيتًا وخمْرًا ثمَّ حمله على دابّته وذهبَ به إلى فندق واعتنى بأمره. وفي الغد أخرجَ دينارين، ودفعهما إلى صاحب الفندق وقال: اعتنِ بأمره، ومهما أنفقتَ أؤدِّه أنا إليكَ عندَ عودتي". فالسامري، عدو اليهودي، يمثّل الترجمة الواقعية لكلام يسوع "أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم"، بخلاف الكاهن واللاوي اليهوديين اللذين مالا عن الرجل المصاب.
ويُقيمُ يسوع في "الدينونة العظمى" توازنًا سيميتريًا بين المال والمحبة، فالمحبّة تقع إلى يمين الله وحبُّ المال إلى يساره"، وإذا كان المالُ سيّدًا تُمكن عبادتُه في موازاة عبادة الله، فإن وصيّة "المحبّة" هي في مستوى الوصيّة الأولى والأهم من بين الوصايا، "أحبب الله"، وتُشبهها وصيّة "أحبب قريبك". ويورد لوقا الوصيتين في واحدة "أَحْبِبْ الربَّ إلهك بكلِّ قلبكَ، وكلِّ نفسِكَ، وكلِّ قوتِكَ، وكلِّ ذهْنِكَ، وأَحْبِبْ قريبَكَ حبَّكَ لنفسكَ". وتعني الوصيّةُ الثانية أن يُحقِّقَ المؤمنون العدلَ والمساواة في ما بينهم وبين المحتاجين من إخوةِ يسوع الصغار، أي الفقراء، فيقدموا لهم ما يحتاجونه من مأكل وكساء وماء ومأوى... في إطارٍ مفعمٍ بالمحبة، لا أن يكونَ العطاءُ للكبرياء والتفاخر ما يؤلمُ الكرامة الإنسانية ويُذلُّها. يقولُ يسوعُ: "إيّاكم أن تعملوا برَّكم بمرأى منَ الناسِ لكي ينظروا إليكم، فلا يكونُ لكم أجرٌ عندَ أبيكُمُ الذي في السموات. فإذا تصدّقْتَ فلا يُنْفخْ أمامكَ بالبوقِ، كما يفعلُ المُراؤون في المجامعِ والشوارع ليُعظِّمَ الناسُ شأنهم. الحقَّ أقولُ لكم إنّهم أخذوا أجرهم. أمّا أنتَ، فإذا تصدّقتَ، فلا تعلمْ شِمالُكَ ما تفعلُ يمينُكَ، لتكونَ صدقتُكَ في الخُفْية، وأبوكَ الذي يرى في الخفية يُجازيك". ويرى بولس في رسالته الأولى إلى اهل قورنتس أنّه "ولو فرَّقْتُ جميع أموالي لإطعامِ المساكين،...، ولم تكنْ لي المحبّةُ، فما يُجديني ذلكَ نفْعًا" (13/3).
الاقتصاد المسيحي السليم
يُعتبرُ محتوى "الدينونة العظمى"، منطلقًا لاقتصادٍ مسيحيٍّ سليمٍ، وضعَ له يسوع أسسًا في صورةٍ غير مباشرة. فهو حاول أن يكلّمَ سامعيه بالأمثال "ليفهموا"، فإذا بملكوتِ الله يُشبه الاستثمار الاقتصادي في مفهومه السامي. ولولا سمو المفهوم الاقتصادي عند يسوع، لما شبّه به ملكوت الله. فالتشبيه يفترض الموازاة بين المشبّه والمشبّه به، وإلاّ اختلَّ التشبيه. صحيح أن دعوة يسوع تُركّز على الاكتناز في ملكوت السموات، لأنه "حيْثُ يكونُ كنزُكَ يكونُ قلبكَ"، لكنّه لم يمنع الاكتناز في الحياة الأرضية. إذ كيف يستطيع المؤمنون أن يقدموا المأكل والمشرب والكساء والمأوى إلى المحتاجين إذا لم يعملوا. في هذا المجال يقول يعقوب في رسالته (2: 14 -17): "ماذا ينفعُ يا أخوتي، أنْ يقولََ أحدٌ إنّه يؤمنُ، إن لم يعملْ؟ أبوسعِ الإيمانٍ أن يخلِّصه؟ فإن كان فيكم أخٌ عريانٌ أو أختٌ عريانةٌ ينقُصهما قوتُ يومهما، وقال لهما أحدكم: اذهبا بسلامٍ فاستَدْفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما يحتاجُ إليه الجسد، فماذا ينفعُ قولكم؟ وكذلك الإيمانُ، فإن لمْ يقترنْ بالأعمال كانَ ميتًا في حدّ ذاته". ويُتابع: "إن الإيمان من غيرِ أعمالٍ شيئٌ عقيم".
من هنا تعتبرُ الدعوةُ إلى الإنتاج من أركان الاستثمار الاقتصادي، وإلى الاستثمارِ العملُ الجيّدُ والاكتنازُ لمساعدة الآخرين، والتفاهم بين الأخوة بعيدًا عن الطمع والجشع.
محورُ الاقتصاد المسيحي: "المحبة"، التي هي بالتأكيد محورُ سلوك المسيحي في حياته. فالحسابات الاقتصادية الدقيقة في أمثال يسوع تعبّرُ عن الدقّة التي يجب أن يعتمدها المؤمنُ في حساباته ليدخلََ ملكوت الله، أو يستحقَّه.
لكنَّ هذا المحور يختلف عمّا سبق وأملاه العهد القديم. فالتوراة العبرانية "لا تضع في المواجهة التعلق بالثروات وخدمة الله، بل على العكس تثمّن الغنى وتعطيه معنىً لاهوتيًا" (1). و"كما كان الثراءُ في اليونان أيام هوميروس، يبدو الثراء عند بني إسرائيل، عنوانَ الشرف، ويُغني الله أحبّاءه: إبراهيم (تكوين 13: 2) وإسحق (26: 12 -13) ويعقوب (30: 43)، وتتباهي الأسباطُ بخيراتها". (2) وتبدو الخيْرات المادية " لا تخلو من الخير، فهي بخاصّة تؤمّنُ استقلالاً كريمًا، وتُغني عن التضرّع (أمثال 18: 23) وعن الخضوع للدائنين (22: 7). كما أن الغِنى يُكثرُ الأصدقاء (سيراخ 13: 21-23)".
وبحسب مزمور داود (37/13) "يرمزُ الغِنى إلى سخاء الله، وهو أحدُ عناصر الحياة الوافرة التي لا يفتأ الله يَعِدُ بها مختاريه". وتبرهن الرفاهيةُ عن نجاح المجهودات المبذولة، فيبدو الثراءُ "مجدًا واكتمالاً". ويُشكّلُ الغِنى، إلى الحياة الطويلة والصحة والسمعة الطيّبة، عنصرًا من عناصر السلام والامتلاء في الحياة، ولم يُعْتبر في إسرائيل أنّهُ مخزي.
المال الحرام يحرمُ البشر من خيراتِ الأرض
لكنّ العهد القديم، كما يوثّقُ معجم اللاهوت الكتابي، لا يغفل }أن الحكمةَ القديمة لا تجهلُ مالَ الظلم، وتعرفُ أنَّ الغِنى الحرام لا يُفيد صاحبه
1- دانيال مارغيرات – استاذ العهد الجديد، في كليّة الللاهوت في جامعة لوزان -
2 – معجم اللاهوت الكتابي – صفحة 590 -592
(أمثال 21: 6، 23: 4-5 وهوشع 12:9)، وأنَّ "ما يجمعه المُرابي يرِثُه البارُّ في النهاية" (أمثال 28: 8)، ويُعتبرُ مالاً حرامًا هذا الذي يؤدّي إلى حرمان غالبية البشر من خيرات هذه الأرض لتخصيصها إلى مستفيدين قلّة: "ويلٌ للذين يصلونَ بيتًا ببيت، ويَقرِنونَ حقلاً بحقل، حتى لم يَدَعوا مكانًا لغيرهم" (إشعيا 5: 8). "بيوتهم امتلأت من الغشِّ، فلذلك عظموا واستغنوا أنهم لامعون" (إرميا 5: 27-28){.
ولا تَغفل "توراة العبرانيين" الفجور الذي يتسبَّبُ به الغنى، فـ"الأغنياء يَفَْجُرون عندما يتصوّرون أنَّ في إمكانهم الاستغناء عن الله".
الانقلاب ضدَّ الغِنى: الويلُ لكم أيُّها الأغنياء
يُحدِثُ يسوعَُ انقلابًا إزاء الغِنى ويتخذ في انقلابه طابع القسوة: "الويلُ لكم أيها الأغنياءُ، فقد نلتم عزاءكم (لوقا 6: 24)، وهي لهجةُ إدانةٍ مطلقة. و"تبرز هذه الإدانة بكلِّ أبعادها لدى المقارنة بين التطويبات والويلات في موعظةِ الجبل، وبما وعد سفرُ تثنية الاشتراع، بحسب ما يكونُ إسرائيلُ أمينًا أو غيرَ أمينٍ للناموس (تثنية:28) وهنا تتعمّق الفجوة بين العهدين القديم والجديد".
يُعلنُ يسوع: لا يمكن أن تعبدوا سيّدين الله والمال (متى 6: 24) فينتصبُ المال سيّدًا بلا رحمة : إنّه يخنقُ عندّ الرجل الجَشِعِ، كلمةَ الإنجيل (متّى 13: 22)، حيث يقولُ يسوع في تفسيره لمثلِ الزارع "أمّا الذي زُرِعَ في الشوك، فهو الذي يسمعُ الكلمة، ويكونُ له من همِّ الحياةِ الدنيا وفِتْنةِ الغِنى ما يخنقُ الكلمة فلا تُخرِجُ ثمرًا". وتجاهَ قساوة قلوب الفريّسيين يقلبُ سلوكية المجتمع، إذ يطلبُ رحمةً لا ذبيحةً" (متى 9:13، وهي من قول هوشع 6:6). لا يُبطلُ يسوع الذبيحة التقليدية بعد، لكنّه يذهبُ إلى أبعد من تقدمة الذبائح والتوقف عن العمل أيام السبوت، عندما يكونُ المرءُ في حاجةٍ إلى عمل رحمة، مثل غفران الخطايا وشفاء المرضى...
المحبّة ركنُ الحياة الاقتصادية
ولا ينطلقُ عملُ الرحمةِ هذا إلا من المحبّة، من الحبِّ الكبير الذي يستوجب التضحية. وهذا المحور يُشكَّلُ قطبَ الحياة الاقتصادية لدى يسوع. هكذا يدخلُ المؤمنون ملكوت الله ويستحقونَ نعمةَ الخلاص.
وببساطةٍ يدورُ محورُ الاقتصاد في الإنجيل حول، العمل في أمثال "العملة الذين أُرسلوا إلى الكرم" (متى 20: 1-16)، و"الوزنات العشر" (متى 25: 14 -30)، و"الأَمْناء العشر" (لوقا 19: 11-26). والأجر في "العملة في الكرم" (متى 20: 1-16) و"الوكيل الأمين" (متى 24: 45- 48، يوحنا 15: 1-17). وإتقان العمل كما في مثل "الإبنان" (متى 21: 28 – 32)، و"البناء على الصخر" (متى 7: 24 – 27، ولوقا 6: 47 -49)، و"حبّة الحنطة" والأغصان التي لا تُثمر. والاستثمار بدءّا من درس جدوى المشاريع، مثل "بناء البرج وحساب نفقته، والمَلِك والاستعداد للحرب (متى 14: 28 – 29، ولوقا 14: 31 – 23)، و"التينة غير المثمرة" (لوقا 13: 31 – 32).
كما يتناول الإنجيلُ الإنفاق على المشاريع الاستثمارية في مثلي "الكنز الدفين" (متى 13/44) و"اللؤلؤة الثمينة" (متى 13/25)، والتثمير في مثلي الوزنات العشر والأَمْناء العشر، و"حبّة الخردل" و "الزرع في الأرض الجيّدة (متى 13: 3 – 8، ومرقس 4: 8 – 9). وتقويم الجدوى الاقتصادية بالدعوةِ إلى إهمال ما لا نفعَ فيه، أو إعادة التأهيل كما في مثل التينة غير المثمرة (لوقا 13: 6 – 9)، أو الإقصاء والتلف في أمثال "الزؤان في الحقل" (متى 13: 24 – 30)، و"حصيلة شبكة الصيّد" (متى 13: 47 – 50)، و"الكرمة والأغصان" (يوحنا 15: 1 – 17). ومقاربة قضايا الإرث لِماماً كما في مثل "الإبن الضال" (لوقا 15: 11 – 32) و"الكرّامون القتلة" لناحية توريث غير المستحقين، وتالياً نزع الإرث.
وتناول يسوع موضوع العطاء الصحيح من القلب في مثل "فلس الأرملة" والبحث عمّا فُقِدَ مهما كان ضئيلاً مثل "الدرهم المفقود" (لوقا 15: 8 – 10)، و"الخروف الضال" (متى 18: 12 – 14). إلى الرعاية الصالحة للجماعة سواء كانت مؤمنة أو عاملة، وربما تفضيل المؤسسة الاقتصادية العائلية، حيث يعرفُ رب العمل جميع العاملين لديه، كما في مثل "الراعي الصالح" (يوحنا 10: 11 – 15).
ودعا يسوع إلى العطاء من غير حساب وصنع البرِّ والإحسان كما في مثل "المدينان العاجزان عن وفاء دينهما ( لوقا 7: 41 = 43). ولفت يسوع إلى ضرورة الادخار في سبيل "الخير العام" لا سيّما هنا السهر والصلاة ترقبًا لليوم الأخير كما في مثل "العذارى العشر" (متى 25: 1 – 13)، وإلى التنازل عن الأنانية والتحقق من أن المال ليس الحصن المتين للخلاص، أو لصدِّ الموت كما في مثل "الغَني الجاهل" (لوقا 12: 16 – 21)، علمًا أن يسوع هو من يُنجّي من الموت، لا سيّما موت الروح وهلاكها، فهو الذي أقام من الموت ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-17)، وابنة يائيروس (متى 9: 18 – 26)، ولعازر (يوحنا 11: 1 – 44)، فضلاً عن قيامته هو ومنحه قوّة إحياء الأموات إلى رسله وقديسيه من بعده.
ولا نُغفلُ أيضًا دعوة يسوع إلى عدم اكتناز "المال الحرام"، ويمكن لمن جمع المال الحرام أن يعود ويوزّعه على الفقراء ويتوقف تاليًا عن الاستمرار في جمع هذ النوع من المال.
الإطار العام
ماذا ينفع الإنسان لو ربحَ العالمَ كلَّهُ وخسِرَ نفسه؟
يُستنتج من الأمثال التي شبّه بها يسوع ملكوت الله، أنّه يدعو إلى اعتمادِ سلوكين متوازيين في الحياة، سلوكٍ في الحياة الدنيا من أجل تأمين العيش الكريم لجميع أفراد المجتمع، وسلوكٍ آخر فيها يؤدي إلى الخلاص. والحرص على تطبيق الأول يتيحُ تحقيق الخلاص، بدءًا من اهتمام الأغنياء بالفقراء والأقوياء بالضعفاء والأصحّاء بالمرضى، والأحرار أو الأبرياء بالمسجونين. ونتّبع في الأمثال مقولة "الكفاية اليومية" بما يؤمّنُ العيش، وعدم الاهتمام باكتناز الأموال أكثر من الاهتمام بما يخلّص الروح ويفتح باب الفردوس، فلا يكونُ ضيِّقًا مثل "خرمِ الإبرة" الذي يعصى على دخول الجملِ فيه، تشبيهًا بصعوبة دخول الأغنياء ملكوت الله. إذ ماذا ينفع الإنسان إذا ربحَ العالمَ كلّه وخسرَ نفسه؟ (مرقس 8/36).
تركّزُ "مدرسةُ يسوع الاقتصادية" على ضرورة العمل. فالعمل أساس الإنتاج والحياة. فيسوعُ يشفى المُقْعَدين والكُسَحاء والمَرْضى والعُمْيان والبرص وغيرهم، لأنهم كانوا مرذولين من المجتمع، يتسوّلون ولا يُنتجون، فصاروا أصحّاء قادرين على العمل. ويُمهّدَ يسوعُ إلى تأمين العمل للجميع، داعيًا أربابَ العمل القادرين على استيعابِ عمّالٍ غير ضروريين، متى دعت الحاجة لتأمين الأَجر إلى العاطلين من العمل، وتخفيف أعباء العمل بتوزيع إنجازه على أكبر فريقٍ ممكن، ما يُتيحُ لهؤلاء أوقاتًا للصلاة ولعمل الخير. ويُعطي مثالاً في تقديمِ أجرِ يومٍ كاملٍ لمن عمل جزءًا من اليوم، لأن الأجر الجزئيَّ لا يكفي لنفقة يومٍ كاملٍ بل لجزءٍ من الاحتياجات.
من جهةٍ أخرى يُتيحُ يسوعُ بابَ المساءلة في العمل. فالذي لا يتمّم واجباته يُطرد من العمل، ومن يُعرب عن ندمٍ يستعانُ به ليتمم واجباته تجاه سيّده.
ويدعو يسوعُ أرباب العملِ إلى درس الجدوى الاقتصادية لأعمالهم، فلا تنهارُ أعمالُهم إذا كانتْ أساساتُها غيرُ متينة. ويُلفتُ إلى ضرورة وقف الاستثمارات غير المجدية، أو دمجها وتحويلها إلى مجالٍ آخر. أو أيضًا تبديل القيّمين الذين يسرقون أو يخرّبون أو يسيؤون معاملة العاملين، أو نقل الإرث وإيلاء الإشراف في العمل إلى من يستطيعُ إنجازه بأمانة.
ولم يمنع يسوع الاستثمار في أعمال الصيرفة أو التجارة، بل كافأ الذين تاجروا بالوزنات والأَمْناء، ولفت الذي دفن الوزنة إلى إغفاله مجال استثماره لدى الصيارفة حيثُ كان يُمكن أن تحقّقَ عائدًا من الفائدة.
ويُشدّد يسوعُ على ضرورة مساعدة الآخرين، لا سيّما المحتاجين، وضيافة الغرباء وإطعام الجائعين، والتجاوب مع طلباتهم. ويُلفتُ إلى عدم التفريق بين شخصٍ قريبٍ أو آخر غريب. ويدعو إلى اعتماد سلوكية المحبة، وعمل الخيرِ في الخفية، والعطاء بمحبة وليس بكثرة من دون محبة.
ويرفضُ المتاجرة في الأماكن المقدّسة، كما في الهيكل، مثلما يُحرّم بطرس من بعده المتاجرة بالقدسيات، أي تقبل الأموال لقاء الشفاءات العجائبية.
وفي اقتصاديات الأناجيل كما نقلت عن يسوع، دعوةٌ إلى تجنُّبِ عبادة المال، من دون انْ تُحرِّمَ ادخاره، لأن الحكيم من يخبّئ ليومه وغده، حتى ولو كانَ الله يُغدقُ نعمه على الأخيارِ والأشرار، ويُطعمُ عصافيرَ الحقلِ من دونِ أن تزرع، ويكسو زهور الطبيعةِ حُللاً جميلةً من دونِ أن تنسج. ومثلُ العذارى الحكيماتِ اللواتي ملأنَ المصابيح زيتًا وأخذنَ كمّياتٍ إضافية من الزيت، دليلٌ على التبصّرِ في المستقبل، على الصعيدين المادي والروحي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق