المنزوفة
كانتْ تعبةً حتى الموتْ
وسقيمةً
فسئمتْ الحياة...
رجّحتْ أنّها تشفى...
"وتحلَّ رحمتُه عليَّ"...
ألمْ يقل إنّه جاءَ "ليشفيَ المرضى"
و"يردَّ الخطأةَ التائبين إلى
النعمة"...
ألم يدعونا لنُريحَ نيرنا على كتفيه؟
"يكفي أنْ ألمسه"...
قالتْ
وانسَلّتْ بين الجموعِ خفيةً
و...خشيةً من فضيحة!
فهم علّموها أنَّ ما بها هو بسبب خطيئة...
وأنّها امرأةٌ نجسةٌ
يجب ألّا تقاربَ الآخرين...
فمن تلمسهُ يتنجّس...
وكلُّ ما تلمسهُ يصيرُ نجاسة...
إنّها موبوءةٌ جسدًا وروحًا...
فكيفَ لها أنْ تُشهرَ مرضها؟؟؟
دمها ليس دمَ ذبيحة...
ولا دمَ تطهيرٍ...
ولا دمًا يُرَشُّ على أطراف المذابح وعلى الشعب!!!
ما يسيلُ منها
هو الحياة!
ويبقى جسدها مائتًا...
فدمُها دمٌ نجسٌ ...
هكذا تقولُ شريعةُ موسى...
أمّا هي فتقولُ:
"أنا لمستُكَ يا ربُّ"...
وانطبعَ وجهُ يسوعَ على منديلها
وهو على طريقِ الجلجلة!...
إنّها المنزوفةُ!
و"تقديرًا" القديسة فيرونيكا...
يُعتبرُ شفاءُ المرأةِ المنزوفة، خيرَ مثالٍ على
تقدير يسوع لشأن المرأة في الحياةِ الاجتماعية... فهي ليست خاطئة، وهي لمْ تُخالف
الشريعة، وهي لم ترتكبْ فحشاءَ لتُبعدَ من المجتمع ويُعزى مرضها إلى خطيئةٍ ما!
حتى باتتْ تستحي من إجهار ما بها.
ويبدو أنّها كانتْ امرأةً ذات ثروة، لتنفقَ كلَّ
ما تملك لدى أطبّاء كثيرين، على مدى اثنتي عشرةَ سنة، لكنّها لم تستفد شيئًا. (مرقس 5 :26 25 - ولوقا
8 :43). ورغمَ كثرة الأطبّاء المعالجين، وإنفاق الأموال بسخاء من أجل الشفاء
"فهي لم تستفد شيئًا ولم يُفدها الأطبّاء"... بل صارت من سيّءٍ إلى أسوأ
بحسبْ مرقس.
وطبيعيٌّ أنْ يؤثّرَ النزفُ المستمرُّ على حياةِ
الإنسان. مثله مثل البرص حيثُ يتناثرُ اللحمُ، هكذا يفقد الجسمُ الدمَ... ويُعتبرُ
اللحمُ والدمُ العنصران الأساسيّان للحياة. قبلُ شفى يسوعُ الأبرص... وذاك رغمَ
إبعاده عن الناس، "لمسهُ يسوعُ فبرئَ" وطلبَ إليه يسوعُ أن يُتمّمَ
الشريعة بتقديمه نذورَ الطهور...
المرأةُ المنزوفةُ تعكسُ الآية، هي تُقرّرُ أنْ
تلمس ثوب يسوع، بل طرفَ ثوبه، لا لسبب، بل لإنّها تخشى أن تُعلنَ على الناسِ ما بها...
فالدمُ البشريُّ هو نجسٌ...
من أجلِ ذلك، من أجلِ الشريعة، لمْ يلتفتْ الحاخام
واللاوي إلى الجريح الذي ضربه اللصوص على طريق أريحا...
وواقعُ هذه المرأة المنزوفة، بحسب الشريعة، ينصُّ عليه
الفصل الخامس عشر من سفر اللاويين، وهو "كلامُ الله إلى موسى وهارون"،
وفيه ما ينطبقُ على حال المرأةِ المنزوفة، من الآية 25 إلى الآية 33 ويقول:"25 وإذا
سالَ دَمُ امرأةٍ أيّامًا كثيرةً في غيرِ وقتِ طَمْثِها أو بَعدَهُ، فلْتَكُنْ في
جميعِ أيّامِ سَيَلانِها نَجسةً كما في أيّامِ طَمْثِها. 26 فكُلُّ فِراشٍ
تَستَلقي علَيهِ وكُلُّ ما تجلِسُ علَيهِ يكونُ نَجسًا. 27وكلُّ مَنْ لمَسَ شيئًا
مِنها يكونُ نَجسًا، فيَغسِلُ ثيابَهُ ويَستَحِمُّ بالماءِ ويكونُ نَجسًا إلى
المَغيبِ. 28 وإذا طَهُرَت مِنْ
سَيَلانِها فلتَنتَظِرْ سَبعَةَ أيّامِ، ثُمَ تَطهُرُ. 29 وفي اليومِ الثَّامنِ
تأخذُ لها يَمامتَينِ أو فَرخي حمامِ وتجيءُ بهما إلى الكاهنِ، إلى بابِ خيمةِ
الاجتِماعِ، 30 فيُقَرِّبُ الكاهنُ أحدَهُما للرّبِّ ذبيحةَ خطيئةٍ والآخرَ
مُحرَقةً، ويُكفِّرُ عَنها الكاهنُ أمامَ الرّبِّ سَيَلانَ نَجاستِها. 31 هكذا
تُجنِّبانِ بَني إِسرائيلَ النَّجاسةَ لِئلاَ يموتوا في نَجاستِهم بِتَنجيسِهِم
مَسكِني الذي بَينَهم. 32 تِلكَ شريعةُ مَنْ بهِ سَيَلانٌ ومَنْ يَخرُج مِنْهُ
نُطفَةُ مُضاجعةٍ فَيَتَنَجسُ بِهِما، 33 وشريعةُ
المرأةِ في أيّامِ طَمْثِها ومَنْ بِهِ سَيَلانٌ، ذَكَرًا أو أُنثى، وشريعةُ
الرَّجلِ الذي يضاجعُ نَجسَةً".
وتعرفُ
المرأةُ جيّدًا، أنّ لمسها لثوبِ يسوع، ولو بقصد الشفاء، يُدنّسه، وحضورها بين
الجموع يُدنّسُ الآخرين، فخشيتْ أن تطلبَ الشفاء جهرًا، فجاءتْ من وراء يسوع، ولمستْ
طرف ثوبه فبرئة في الحال...
يسوعُ
كما في حواراته اللاهوتية والرسالية، يعكسُ الموقف دائمًا.
"إنّ
قوّةً خرجتْ منّي"
إنّ
قوّة الشفاء هذه، لا تخفى، ويجب ألاّ تخفى...
لم
يكن اللمسُ الحاصلُ لمسَ بشرٍ يتدافعون من حوله ويسدّون الطريقَ...
بل
لمسٌ عميقٌ في الإيمانِ بحيثُ يبدو أنّهُ يستلُّ قوّةَ الشفاء من داخل يسوع...
ونظرًا إلى قوّته كان لا بدَّ من أن يُعلَنَ على الملأ...
ولمْ
يكن سؤال يسوع "منْ لمسني"؟ سؤالَ جاهلِ لا يعرف منْ لمسه. بل هو سؤالٌ تحريضيٌّ لإعلان النعمة والرحمة...
كانَ
يُمكن أنْ تهمسَ المرأةُ في أذنِ يسوع.
لكنّ
"المرأة خافَتِ واَرتَعبَت لِعِلمِها بِما جرَى لها، فجاءَت وسَجدَت لَه وأخبرَتهُ
بالحقيقةِ كُلِّها". (مرقس 5 :33) فلمّا
رَأتِ المَرأةُ أنَّ أمرَها ما خَفِـيَ على يَسوعَ، جاءَت راجِفَةً واَرتَمَت على
قَدَمَيهِ وأخبَرَتْهُ أمامَ النـّاسِ كُلِّهِم لماذا لَمَستْهُ وكيفَ شُفِـيَت في
الحالِ.
بين يسوعُ والمرضى المؤمنين
بقدرته على شفائهم، "استشعارٌ" عميق الإيمان. هو يلمسهم فيشفيهم. هم
يلمسونه فيشفون. يلتمسون منه ويفيض بحنانه ورحمته عليهم... ويُعيدهم إلى المجتمع
أصحاء روحيًّا وبدنيًّا واجتماعيًّا...
المرأةُ المنزوفةُ خافتْ
وارتعبتْ لكنّها كشفتْ عن مرضها، وعن نزفها وعن فشل الأطباء في شفائها، وعن
إيمانها بيسوع...
لكنّ يسوعَ عوّضها ما فقدتهُ
طيلةَ اثنتي عشرةَ سنة،
·
فهو أعادَ إليها "ثقةً" فقدتها لناحية
شفائها، وتجاه المجتمع المحيط بها، من البيئة الضيّقةِ الزوج والأولاد والأقارب،
إلى البيئة الواسعة الناس، وبخاصّةٍ الأطبّاء... فقالَ لها "ثقي"...
·
وهو أعادها إلى دائرةِ الحنان، بعدما فقدته ممن
يُحبّها واعتبرت منبوذةً، فنادها "با ابنتي"...
·
وأشعلَ في قلبها جذوة الإيمان إلى نارٍ شفّافة
مليئة بالالتماس الكلّي للنفس والجسد "إيمانُكِ خلّصكِ" ...
ولم يخشَ يسوعُ من إعلان لمسها
له، فهو لم يعتزل الناس المحيطين به إلى المساء.
ولا الحشودُ أرعبها كونُ
المرأةِ تنزفُ دمًا نجسًا...
بل استمروّا في مسيرتهم معهُ
إلى حيثُ يُقيمُ اللحم والدم من الموتِ.
إلى حيثُ ينتشلُ الحياة من
رقادِ الموتِ
يكفي أنْ "تؤمنْ"
قالها يسوعُ ...
ويقول التقليد إنّها القديسة فيرونيكا، التي مسحتْ
وجه يسوع وهو على طريق الجلجلة بمنديلٍ...
فانطبعَ وجهُ يسوعَ عليه!
إحياء إبنة رئيس المجمع اليهودي
إنّها في الثانيةَ عشرةَ من عُمرها...
الفترة الزمنية المماثلة لنزف الدمِ من المرأةِ
المجهولة...
الأخيرة فقدتْ عنصر الحياة المتمثل بالدم...
الصبية فقدة عنصر الحياة المتمثل بالجسد...
الاثنتان
قد ترمزُ الأولى منهما إلى أسباط العهد القديم
النازفِ إيمانها
وقد ترمزُ الثانيةُ إلى قيامةِ الإيمان المتمثل
برسل المسيح...
لكنْ الشفاء من النزف – وهو نجسٌ – يُصوّبُ أحكامَ
العهد القديم...
ويجبُ أنْ يُعلَنَ عنه...
بينما القيامةُ من الموتِ
تستوجبُ إخفاءها إلى حينٍ ...
فالفتاةُ نائمةٌ...
إلى حدٍّ ما تُشبهُ قصّتها قصّة "الجميلة
النائمة في الغابة"
تنتظرُ أميرَ أحلامها...
هي هنا في عمر الثانية عشرة...
عمر البلوغ الديني للذكور...
وعمرُ البلوغُ الأنثوي للزواج ...
أخذَ بيدها
ونادها:
"يا صبيّةُ انهضي"...
يُرجّحُ أنّها الأعجوبةُ الأولى لإقامةِ يسوعِ
شخصٍ من الموت. والدها رئيسٌ يهوديٌّ كما يذكر الإنجليُّ متّى في الآية 18 من
الفصل التاسع. جاء وسجَدَ ليسوع وقال:"الآنَ ماتَتْ ابنتي. تعالَ وضعْ يدكَ
عليها فتحيا". في حين يذكرُ كلٌّ من مرقس ولوقا، أنّها مريضة.
يقولُ مرقس في الآيتين 22و23 من الفصل
الخامس:" وجاءَ رجُلٌ مِنْ رُؤساءِ المَجمعِ
اَسمُهُ يائيرُسُ. فلمَّا رأى يَسوعَ وقَعَ على قَدمَيهِ، وتوَسَّلَ إليهِ كثيرًا
بِقولِهِ: "إِبنَتي الصَّغيرةُ على فِراشِ الموتِ! تَعالَ وضَعْ يدَكَ
علَيها، فتَشفى وتَحيا!". ويزيدُ لوقا في الفصل الثامن، الآيتان 41 و42 أنّها وحيدة :"وجاءَ إليهِ رَجُلٌ
اَسمُهُ يائيرُسُ، وهوَ رَئيسُ المَجمَعِ، فاَرتَمى على قَدَمَي يَسوعَ وتَوَسَّلَ
إليهِ أنْ يدخُلَ بَيتَهُ، لأنَّ لَه اَبنَةً واحِدةً في نحوِ الثَّانيةَ عَشْرَةَ
مِنْ عُمرِها، أشرَفَت على الموتِ".
ويُكمّل
الإنجليون الثلاثة تفاصيلهم الدقيقة، لأن متى وهو يتوجّه إلى اليهود، يُشدّدُ على
"رئيس يهوديٌّ"، جاء وسجدَ على قدمي يسوع بإيمانٍ عميق "تعالَ وضعْ
يدكَ عليها فتحيا". فبالنسبةِ إلى متى هو إحياء الصبية الميتة. مرقس ولوقا
يحدّدان اسم رئيس المجمع اليهودي، يائيروس" راجيًا يسوعَ أن يدخل بيته ويضع
يده عليها فتشفى وتحيا "لأنّها كانتْ أشرفتْ على الموت". ويزيدُ لوقا
أنّها "إبنة وحيدة"، لتبرير لوعةِ الأب، ما يُفجّرْ التماس الرحمة من
يسوع، ويضاعف إيمانه الأكيد على أنّ يسوعَ قادرٌ على شفائها وإحيائها من الموت...
وإذ ينتهي
المشهد الأول، ويعترضهُ تدخّل المرأةِ المنزوفةِ، تشتدُّ المأساةُ بخبر موتِ
الصبيّة، ما يزيدُ من لهفةِ الوالد المفجوع بابنتهِ، هنا يُتابع مرقس في الفصل
الخامس:[35 وبَينَما يَسوعُ يتكَلَّمُ وصَلَ رِجالٌ مِنْ دارِ رَئيسِ المَجمعِ
يَقولونَ: "ماتَتِ اَبنتُكَ، فلا حاجَةَ إلى إزعاجِ المُعلِّمِ". 36
فتَجاهَلَ يَسوعُ كلامَهُم، وقالَ لِرئيسِ المَجمعِ: "لا تَخفْ، يكفي أن
تُؤمِنَ". 37 وما أذِنَ لأحَدٍ أنْ يُرافِقَهُ إلاَّ بُطرُسَ ويَعقوبَ
ويوحنَّا أخا يَعقوبَ. 38 ولمَّا وصَلوا إلى دارِ رَئيسِ المَجمعِ، رأى يَسوعُ
الضَّجيجَ وبُكاءَ النـّاسِ وعَويلَهُم. 39 فدَخَلَ وقالَ لهُم: "لِماذا
تَضجُّونَ وتَبكونَ؟ ما ماتَتِ الصَّبـيَّةُ، لكِنَّها نائِمةٌ"! 40 فضَحِكوا
علَيهِ. فأخرَجَهُم جَميعًا، ودخَلَ بأبـي الصَّبـيَّةِ وأُمِّها ومنْ كانوا معَهُ
إلى حَيثُ كانَتِ الصَّبـيَّةُ. 41 فأخَذَ بِـيَدِها وقالَ لها: "طَلِـيثا
قُوم"! أي "يا صَبـيَّةُ أقولُ
لَكِ: قُومي"! 42 فقامَتْ في الحالِ
وأخذَتْ تَمشي، وكانَتِ اَبنةَ اَثنتَي عَشْرَةَ سنَةً، ففي الحالِ تَعَجَّبوا
كثيرًا. 43 فأوصاهُم يَسوعُ بشِدَّةٍ بأنْ لا يَعلَمَ أحَدٌ بِما حدَثَ، وأمرَهُم بأنْ
يُطعِموها].
ولا
يختلف نصُّ لوقا في الآيات 49 إلى 54 من الفصل الثامن، عمّا ورد عند مرقس، لكنّه
يُبدّل في النهاية فيقول:" 55
فرَجَعَت رُوحُها وقامَت في الحالِ، فأمَرَ بأنْ تُعطَى طَعامًا. 56 فتَعجَّبَ
والداها، فأوصاهُما بأنْ لا يُخبِرا أحدًا بِما جَرى".
وما
طلبُ يسوع بإطعامها، إلاّ ليتأكد أهلها من أنّها قامتْ فعلاً ويؤمن والداها بأنّ
يسوعَ هو الله أقام ابنتهما من الموتِ بقدرته، وليس كسائر الأنبياء ممن أعادوا
الروحَ إلى الأجساد بابتهالاتهم وتضرعاتهم إلى الله...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق