أوراق ثبوتية للاقتصاد اللبناني
بقلم ميشال مرقص
النهار 23 تشرين الأول 2006
نادرة هي الخطب السياسية ذات الطابع الحزبي، التي تحمل في صفحاتها بذور المنهجية الاقتصادية والاجتماعية، الى جانب المنهجية السياسية العامة. لذا لا يمكن تجاوز خطاب الرئيس النائب ميشال عون، (15 تشرين الاول 2006) وما تضمن من مفردات اقتصادية واجتماعية، لا تدخل اذن السامع الا نادرا. فالعماد الذي ثبّت استحالة "ان تبنى دولة تقوم على الفساد والرشوة"، رسخ الأسس، التي يمكن لهذه الدولة ان ترسي عليها دعائمها، وتتبلور في اعادة الاعتبار الى الخدمة العامة، "ورفع مستوى جودتها وتحديثها، وعدم تسييس الادارة". واهم من ذلك كله، تحييد المال العام بفصله عن السلطة، "ليتحول المال اقتصاداً منتجاً ولتتحول السلطة دولة عادلة". هذه المسلمات هي المدخل السليم لتعزيز افق الاقتصاد فيكون اقتصاد تنمية واقتصاد عدالة واقتصاد دراية وتحسّب.في المفردات الاقتصادية لخطاب العماد عون، صوغ جوهري لسياق احياء الاقتصاد المنتج المتعلق بتفاعل الحياة المجتمعية ودورتها، والمبني على تزاوج بين النشاط البشري واستثمار المال والثروة. فلن يتمكن اقتصاد التنمية من دون الاخذ بالتكنولوجيا الحديثة وتعميمها لتعزيز قدرات الانتاج بخفض التكلفة وتحسين النوعية وتقوية الميزة التفاضلية، يتبعها حتما تعزيز القدرات التسويقية. لكن معيار اقتصاد العدالة لن يتحقق الا بالتوازن بين الاعباء والفرص للمواطنين جميعا. فالشق الاول من النهوض بالاقتصاد، وفق الخطاب، يرقى بالمستوى التقليدي للتوصيف الى المستوى الانساني حيث الابتكار والعطاء يتمثلان في تحسين جودة الانتاج وتسويقه، فيحقق قيمة مضافة عالية، وحيث للانسان حق الانصاف فلا تتوجب عليه الضرائب من دون ان تتساوى حظوظه مع مواطنين آخرين خدمتهم السياسية والمحاصصة، وقد لا يكونون التزموا بواجباتهم الضريبية.وفي كلام العماد عون، بحث عن هوية للاقتصاد الوطني، باعادة لملمة الاوراق الثبوتية وتكوين ملفاته الجديدة تمهيدا لادخالها بوابة العولمة. هذه الدعوة قد لا تكون جديدة، ولكن جدتها تتجلى في المفردات الاقتصادية التي فرقت بين اقتصاد التنمية واقتصاد العدالة بلوغا الى اقتصاد الدراية. فالبيانات الوزارية في مجملها تطلعت صوب تحقيق اقتصاد انتاجي، وخصوصا بعدما استفحل الاقتصاد الريعي نتيجة التوسع في الاكتتاب بسندات الخزينة ذات معدلات الفوائد المرتفعة، فصار الاكتتاب فيها، بعد سنوات، من اجل تغطية كلفتها وليس من اجل تحقيق اعادة الاعمار. ولما تقلصت قدرة المصارف المحلية على رفد الخزينة بالمال، تحولت الحكومة الى الاسواق الخارجية، وتلتها بعمليات "سواب" او بمؤتمرات دولية تساعدها على استبدال دين بآخر، وهي سائرة الى مؤتمر دولي جديد. ورغم السياسة اللولبية التي تتبعها الحكومات، في التخطيط المالي للنفقات والواردات، فقد تخطى الدين العام اربعين مليار دولار وانهك الموازنة العامة كلفة تراكمية بلغت حدود الـ32 مليار دولار اميركي دفعت كاملة او اضيفت الى الدين. لذا بقي كلام البيانات الوزارية، مثل قصص الف ليلة وليلة، مزوّق العبارة قليل الانتاجية، يرضي العامة، ويثير فريقا من الخاصة. ولا يقل عنه تنميقا الاستطراد الدخيل في تلك البيانات حول وقف اهدار الاموال العامة وحول تحسين اداء الادارة العامة وحول التحقيق في ملفات الفساد وحول خصخصة مرافق عامة للتخلص من اعباء الدين العام.لقد اضاعت الحكومات المتعاقبة، منذ بداية تسعينات القرن العشرين، فرصا ثمينة جدا وافلت زمام الحكم من يدها، ولم تستطع ضبط المسار السياسي ولا المسار الاقتصادي والاجتماعي ولا حتى الامني. ولا يمكن، حتى الآن، ان تفخر حكومة بانجازات لها في هذا المجال، ليس من ناحية بناء المنشآت والمؤسسات، بل لناحية تفعيل عمل هذه المؤسسات. وهي اذا كانت نجحت في تأمين التعليم الرسمي المجاني وبناء مستشفيات حكومية، فان انتاجية هذه المؤسسات ليست كافية، ولا هي استطاعت ان تنقذ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي او توفر المال الكافي للمهجرين وتوقف الطمع في قسم كبير منه. ورغم انفاق الاموال، بمبالغ طائلة على شبكات الطرق وشبكات الهاتف والمياه والكهرباء، فان قسما كبيرا مما نفذ ليس بالمستوى الفني او المستوى التقني العالمي، او حتى بالمستوى الاقتصادي العادي. فكلفة البنية التحتية جاءت مثقلة بالاهدار وبالسرقة المباشرة او بتزوير المواصفات. كما ان البيانات الحكومية التي بشرت بالاهتمام في الشأن الاجتماعي قصرت عن الوفاء ببشارتها، وهي ساهمت بالمساعدات على مستوى الهوى السياسي والتعامل المحاصصي، وهذا الاهمال هو الذي لفت رئيس تكتل التغيير والاصلاح النيابي العماد عون، الى الحديث عن اقتصاد الدراية.
فاقتصاد الدراية لم يتمثل جيدا الا على صعيد احتياط مصرف لبنان بالنقد الاجنبي والذهب. وكانت حكمة نقدية ان يتعزز احتياط المصرف المركزي ما ساعد في استقرار النقد الوطني فحافظ سعر الليرة على استقرار طويل الامد، خصوصا في جبه الازمات، ما حفظ مدخرات اللبنانيين الى حد ما، رغم ما قيل عن الثمن الكبير الذي دفع في تثبيت هذا السعر. ان الهم الاساس لاقتصاد الدراية والتحسب يكمن، وفق الخطاب، في "الحرص على الا تُستهلك اليوم مقدرات الغد والا تُلقى على الغد تبعات الماضي من دون حساب. ومن متطلباته ادارة واعية ومسؤولة للاعباء والاخطار المالية، بالاعتماد على مقدرات اللبنانيين، وعلى دعم الدول الصديقة والمؤسسات المالية الدولية. وهمه ايضا دعم المؤسسات التي تعبر عن التكافل الاجتماعي، ولا سيما الصحية منها، وضمان الشيخوخة والتعليم، والسهر على حماية مدخرات اللبنانيين من اي مخطار او تعديات. وكذلك حماية مقومات البيئة الطبيعية والثقافية للبنان، كما وتعزيز العلاقات بالمغتربين اللبنانيين عبر تأطير طاقاتهم الفكرية والاقتصادية لتعزيز مواقعهم وافادة لبنان منها".صحيح ان كلام العماد عون يصب في بحيرة ما تقول به الحكومة، وما قالت به الحكومات، وما صرح به رؤساؤها ووزراؤها الى رئاسة الجمهورية. لكنه رافد غزير وواسع وذو منهجية مترابطة ضمن الاطار السياسي. فالمشكلة ليست في القول، بل في التنفيذ، وليست بتبني الاعمال الحكومية الروتينية، على انها اعمال بطولية، فهي تصب في اتجاهات رياح الانفاق المتعاكسة، وتنضب جدواها عندما تسطع الحقائق في مهجر الحساب. يجب ان يلمس المواطنون جميعا جدية الحكومة في العمل، شفافيتها في برمجة سعيها لتحقيق اقتصاد الانماء المتوازن المشلوح على رصيف اتفاق الطائف منذ 16 عاما، او اقتصاد العدالة وقد سقطت كفتا الميزان وبقيت العدالة الاقتصادية عمياء، او اقتصاد الدراية والتحسب، علما ان احتياط الموازنة ذاب في اتون الانفاق الهستيري. كيف يمكن للحكومة ان توازن طروحاتها بما هو جدي، وهي ساهمت في تهجير اكثر من ثلثي القوة العاملة اللبنانية، اما بسبب العجز في ايجاد فرص العمل، او بسبب الاضطهاد السياسي، او بسبب تشليع العمل الاداري الذي صار مبنيا على المحاصصة والوساطة السياسية وليس على الكفاية والجدارة ونظافة الكف. وكيف يمكن لحكومة ان تعلق وسام استحقاق نتيجة جهودها، وهي تعلم ان ما تم تنفيذه في الاعوام الست عشرة الماضية لم يكن في مستوى الكلفة الباهظة التي دفعها الوطن الصغير.ليس المهم ان تتلاقى الافكار والبرامج والاسس في الخطب والبيانات والمناسبات وكلام الصالونات. الاهم ان يتلاقى، من اطلقها، على سبيل واحد لتنفيذها. فالعماد عون واحدٌ ابرز الخلل ووضع التصويب السليم له. قبله، وفي برنامجه لرئاسة الجمهورية تناول النائب الشيخ بطرس حرب الشأن الاقتصادي والاجتماعي، وكان لقاء قرنة شهوان تذكير دائم بسقطات الحكومات وتقصيرها وانحيازها الى مؤيديها من دون المعارضين، كما تخطو في سياقها الحالي. لكن اما آن تاريخ نفض الحزبيات الضيقة وتهديم الجدران العازلة بين الافرقاء اللبنانيين والبحث عن الاوراق الثبوتية، ليس للهوية السياسية فحسب، بل للهوية الاقتصادية والاجتماعية، والسعي الى الانصهار وتوحيد سبل المعالجة لاوضاع هذا الوطن؟
فاقتصاد الدراية لم يتمثل جيدا الا على صعيد احتياط مصرف لبنان بالنقد الاجنبي والذهب. وكانت حكمة نقدية ان يتعزز احتياط المصرف المركزي ما ساعد في استقرار النقد الوطني فحافظ سعر الليرة على استقرار طويل الامد، خصوصا في جبه الازمات، ما حفظ مدخرات اللبنانيين الى حد ما، رغم ما قيل عن الثمن الكبير الذي دفع في تثبيت هذا السعر. ان الهم الاساس لاقتصاد الدراية والتحسب يكمن، وفق الخطاب، في "الحرص على الا تُستهلك اليوم مقدرات الغد والا تُلقى على الغد تبعات الماضي من دون حساب. ومن متطلباته ادارة واعية ومسؤولة للاعباء والاخطار المالية، بالاعتماد على مقدرات اللبنانيين، وعلى دعم الدول الصديقة والمؤسسات المالية الدولية. وهمه ايضا دعم المؤسسات التي تعبر عن التكافل الاجتماعي، ولا سيما الصحية منها، وضمان الشيخوخة والتعليم، والسهر على حماية مدخرات اللبنانيين من اي مخطار او تعديات. وكذلك حماية مقومات البيئة الطبيعية والثقافية للبنان، كما وتعزيز العلاقات بالمغتربين اللبنانيين عبر تأطير طاقاتهم الفكرية والاقتصادية لتعزيز مواقعهم وافادة لبنان منها".صحيح ان كلام العماد عون يصب في بحيرة ما تقول به الحكومة، وما قالت به الحكومات، وما صرح به رؤساؤها ووزراؤها الى رئاسة الجمهورية. لكنه رافد غزير وواسع وذو منهجية مترابطة ضمن الاطار السياسي. فالمشكلة ليست في القول، بل في التنفيذ، وليست بتبني الاعمال الحكومية الروتينية، على انها اعمال بطولية، فهي تصب في اتجاهات رياح الانفاق المتعاكسة، وتنضب جدواها عندما تسطع الحقائق في مهجر الحساب. يجب ان يلمس المواطنون جميعا جدية الحكومة في العمل، شفافيتها في برمجة سعيها لتحقيق اقتصاد الانماء المتوازن المشلوح على رصيف اتفاق الطائف منذ 16 عاما، او اقتصاد العدالة وقد سقطت كفتا الميزان وبقيت العدالة الاقتصادية عمياء، او اقتصاد الدراية والتحسب، علما ان احتياط الموازنة ذاب في اتون الانفاق الهستيري. كيف يمكن للحكومة ان توازن طروحاتها بما هو جدي، وهي ساهمت في تهجير اكثر من ثلثي القوة العاملة اللبنانية، اما بسبب العجز في ايجاد فرص العمل، او بسبب الاضطهاد السياسي، او بسبب تشليع العمل الاداري الذي صار مبنيا على المحاصصة والوساطة السياسية وليس على الكفاية والجدارة ونظافة الكف. وكيف يمكن لحكومة ان تعلق وسام استحقاق نتيجة جهودها، وهي تعلم ان ما تم تنفيذه في الاعوام الست عشرة الماضية لم يكن في مستوى الكلفة الباهظة التي دفعها الوطن الصغير.ليس المهم ان تتلاقى الافكار والبرامج والاسس في الخطب والبيانات والمناسبات وكلام الصالونات. الاهم ان يتلاقى، من اطلقها، على سبيل واحد لتنفيذها. فالعماد عون واحدٌ ابرز الخلل ووضع التصويب السليم له. قبله، وفي برنامجه لرئاسة الجمهورية تناول النائب الشيخ بطرس حرب الشأن الاقتصادي والاجتماعي، وكان لقاء قرنة شهوان تذكير دائم بسقطات الحكومات وتقصيرها وانحيازها الى مؤيديها من دون المعارضين، كما تخطو في سياقها الحالي. لكن اما آن تاريخ نفض الحزبيات الضيقة وتهديم الجدران العازلة بين الافرقاء اللبنانيين والبحث عن الاوراق الثبوتية، ليس للهوية السياسية فحسب، بل للهوية الاقتصادية والاجتماعية، والسعي الى الانصهار وتوحيد سبل المعالجة لاوضاع هذا الوطن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق