الثلاثاء، 19 يونيو 2012

قيادة أخلاقية لإنقاذ البلاد

قيادة أخلاقية لإنقاذ البلاد
ميشال مرقص

في 26 حزيران 2007
أي - قبل 5  سنوات

لا يمكنُ إنقاذُ الاقتصادِ الغارقِ في الاستنزافِ، داخلَ الوطن الصغير، ما لمْ يتمُّ إنقاذُ الدولة. الاقتصادُ ليسَ جسما دخيلاً ولا نافرا، ولا هوعضوٌ منفصلٌ عن هيكلِ جسم الدولة، إنّه الرئةُ، وقد أعطبها حالُ السموم المنبعثةِ من جوِّ السياسة الخانق ولزوجةُ الوضع الأمني، المهدّد مثلَ سيف ديموقليس، فوق الرؤوس. ومع انهيار أسس الدولة، لا أحد، ممن يُظَنُ أنّه مسؤولٌ، يتعاطى بأخلاقيةً عالية ومترفعة، ومنزّهة عن الغايات، من أجل إنقاذ الوطن. والتنزّه عن الغايات، لا يعني فقط، نظافةَ الكفِّ، إذا وجدتْ، وقد عزّتْ كثيرا، بل نظافةَ المسؤول من كلِّ الأهواء التي تتقدم على انتمائه الوطني، مهما اعتبرتْ بعضُ الأهواء سامية، كالأهواء الطائفية والمذهبية. وهذان التنزّه والترفّع عن الصغائر والكبائر، لم يعودا مدرجين في قاموس أخلاقياتِ اللبنانيين، بدءا من المتربعين في كراسي الحكم وفي صفوف الذين خارجه. فلا الناس، ولا المؤسساتُ ولا مقومات الاقتصاد أو الاجتماع، باتت قادرةً على الاستمرار، في ظلِّ عدم المبالاة بالمصلحة الوطنية العامة، كأنّ أيّ "زعيمٍ" صارت أطرافه أوسع من أطراف الوطن.لقد تركت أحداثُ ربيع 2007، بصماتها على جسد الوطن الصغير. في عاصمته ومدنه وبلداته، رعبٌ من متفجّراتٍ ممكنة، ومن اغتيالات ظُنَّ أن الأحقادَ الدافعة إليها قد شُفيت، لكنها مثل الجربِ تختفي ثم تعود. الأسلاكُ الشائكةُ وسط العاصمة وفي المنطقة الخضراء، وإقفال شرايين النقلِ الرئيسية، ووضع الشرائط الصفراء والحمراء على جانبي الطرق، ورصف بلوكات الباطون، وتعزيز دور مواقف السيّارات الخاصّة، والإشراف على أمنها من شركاتٍ متخصّصة، كلُّ هذه الظواهر، تُنبئ بكساحِ الحالِ في الوطنِ الصغير. فالرعبُ والحذرُ يجاورانِ المتنقلين بين هذه الأقنية الضيّقة، والشوارع التي صارت أزقّة. وحدها الشركاتُ الخاصّة للحفاظ على الأمن، ومواقف السيارات الخاصة ازدهرت أعمالها، وتحسّنت عائداتها. الشركات الأمنية باتت غيرُ قادرةٍ على تلبية الطلبات، عديدها يزداد، وصارت تُشكّلُ أكبر ميليشيا في البلد.وسط هذا الضجيج الهائلِ من الشحنِ السياسي والأمني، المتمادي عميقا في النفوس، صار سلوكُ الناسِ قدريًا. والمؤسسات تعوي من شحِ نشاطها، والقرفُ نصبَ مضارب خيمه وأقامَ في القلوب والأفكار واللعناتُ لا تقوّمُ التواء الخط السياسي. رغمَ ذلكَ كلّه، يبرزُ إلى الواجهة عمقُ الخلافات الاقتصادية، بين مسؤولين سياسيين، ومواقع في الفاعليات الاقتصادية، البعضُ يهمّشُ الصناعة، والبعضُ يعتبرُ الزراعة عبئا، وآخرونَ لا يرون في التجارة فائدةً لايجاد فرص العملِ المرجوّة، وتتناقضُ المواقفُ في ظاهرةٍ للتفلُتٍ من إطارِ الرؤيا الاقتصادية الواحدة. فلا يمكن لمسؤول أن يُنكرَ حقَّ قطاعٍ من نشاطاتِ الاقتصادية في طلب المساعدة أو المساندة وسطَ هذه الظروف الدرامية المتسلسلة مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، من دون تشكيل فرصٍ للاستراحة واستلحاق النفس. وأيُّ نشاطٍ اقتصادي يتمّم النشاط الآخر، فلا يُمكن أن ينشطَ قطاعٌ تجاريٌّ وينمو وهو يسوّقُ لنشاطٍ صناعي غريب. عندما نشطت الصناعةُ الوطنية قبل بداية الحرب اللبنانية - اللبنانية، كانت تموّن السوق التجاري بنسبة 40 إلى 60 في المئة وتُصدّر بنسبة 40 في المئة من قيمة الاستيراد. اليوم، ومع توسّع النشاط التجاري، وازدياد حجم الاستيراد الاستهلاكي، لم يعد للصناعة في السوق اللبنانية الداخلية، أكثر من 35 في المئة. حتى أن القطاع العام يتبرّمُ مما هو صناعة وطنية، فيتجاوزها في الصفقات العامّة، رغم توافر المواصفاتِ العالمية في الإنتاج المحلّي وضمان جودته. لم تكن الجودة يوما سببا في استبعاد الإنتاج المحلّي، بل الصفقات التي عمّرت جيوب النافذين. وهي لا تشكّل أكثر من 25 في المئة من قيمة سلّة الواردات.في دراسةٍ لنا، مع وزير الصناعة المرحوم جورج افرام، هو الذي كانَ يريد تأمين 50 ألف فرصة عمل صناعية في سنوات قليلة، أن القطاع في 2010، كان يمكن أن يستوعب 350 ألف يد عاملة محلية، إذا توفّرت الشروط الملائمة لتنميته. أول الشروط تحديث المؤسسات الصناعية، الأخذ بإنشاء صناعات قابلة للحياة ولا يوجدُ منها في لبنان، تطوير الإنتاج الصناعي وفق حاجة الأسواق المحلية والخارجية، ترشيد الإنتاج لناحية الكلفة، ومن ثم تحديث التجهيز الصناعي، وإعادة النظر في مساعدة الصناعات المستهلكة للطاقة، والتي لا يمكن استبدالها. وكان السقفُ الأعلى للرسم البياني، يتصاعدُ حتى 500 ألف يد عاملة. وفي الزراعة، وضعت دراساتٌ لتحديث القطاع، وهي لا تزالُ قائمة. المشروع الوطني للمسح الزراعي، وضع هيكلية جديدة، تمّ الاهتمام على صعيد تربية الماشية ومنها الأبقار، وتوسّعت الزراعات العطرية التي يُصدّرُ إنتاجها إلى فرنسا لاستخراج العطور الفرنسية، وكذلك العمل على تطوير الصناعات الخالية من الأسمدة الكيميائية والمبيدات. ودرست سلاسل الزراعات المتشابهة في المناطق، وتطوّرت صناعةُ زيت الزيتون والمشروبات الروحية وغير الروحية، وصناعة الكونسروه والمأكولات، لتوافر المواد الأولية محليًّا.تصحيح القدرة الإنتاجية، تلزمه تضحية سياسية، فاستيعاب اليد العاملة الوطنية، يشكّلُ في ذاته، استراتيجية لبناء الوطن. زيادة اليد العاملة يعني تصحيحٌ لمسار الإنفاق الوطني. النشاط الإنتاجي يزيد فرص العمل في قطاعاتٍ أخرى خدمية أو تجارية. وهذه القوة العاملة تصيرُ، في تكوين قدرتها على الإنفاق، مصدرَ دخلٍ للنشاط التجاري، عدا عن كون هذا الأخير يموّن المؤسسات الإنتاجية بمواد أولية، وبالتجهيزات والمتممات. ومواردُ الأموال توظّفُ في المصارف، وتَستكمل الدورة الاقتصادية انسيابها الطبيعي.الوضعُ السياسي المضطرب، وما يرافقه من خللٍ أمني، أقصى المسؤولين عن الاهتمام بالنشاط الاقتصادي. هم في الأساس يميلون إلى تنظيم قطاع المال، ويستسهلون تأمين الموارد للخزينة. الوضعُ أحدثَ فجوةً كبيرةً، وصارَ أمرُ مساعدة المؤسسات الإنتاجية ملحًا للاستمرار، لكن ليس على حساب الجودة، ولا على حساب النوعية والأثمان. الدراسات المعمّقة تُظهرُ مواقع القوّة ومواقع الخلل والضعف، ولا يجوز إهمال أيُّ قطاع.وما يُخجِلُ، على صعيد المسؤولية، أن يُطبّقَ مجلسُ الوزراء أحكام قانون الإغراقُ، استنسابيًا. في القانون حماية القطاع المنتج، وليس المؤسسة فحسب. لكن ما صدرَ من حمايةً لإحدى المؤسسات، هي في حاجةٍ لها، حرمت منها مؤسسة شبيهة في الإنتاج ذاته، وتحت البند الجمركي نفسه. ورُفض نحو 20 طلبا لمؤسساتٍ ثانية، والإغراقُ في ذاته هجّر مؤسساتٍ إلى الخارج، كانت قد أنشئت حديثًا، وشلّ إنتاجية مؤسساتٍ أخرى واقعد آلاف العمّال عاطلين عن العمل.في هذا الوطن، حيثُ يُبرّر المسؤول تصرفاته، ويزجُّ نفسه مخطئا مع من سبقه في الخطأ، صار لزاما البحثُ عن قيادةٍ أخلاقية، حتى من الخاطئين الذين يتوبون. مستوى الحكمُ المنقذ اليوم هو مستوى الأخلاق. الحاكمُ ذو الصفات الخُلُقية يكونُ مثالاً للآخرين، للرعية، ويؤسس لدولة المؤسسات. لا يُبنى وطنٌ من دون توافر قيادة أخلاقية، ولا ينمو اقتصادٌ ما لم تتوفر الأخلاقية في حوكمة الإدارات، وتنعكس في نوعية النشاط وفي التزام المنتجات أحكام التقييس والجودة. السلطةُ الأخلاقية تستعيدَ ثقةَ الناس بها، تستعيد موّدة الرعية، واحترامَ العالم. لا تعودُ ملزمةً إلا بالوطن وبالمصلحة العامّة، وتنفيذ القانون بلا محاباة. وفي منجم السلطة الأخلاقية تندرُ الدررُ والجواهر، فتصير غالية الثمن!إن خـــلاص الوطن الصغير يبدأ بتوفير سيادة أخلاقية. هي تقودُ إلى استقلالٍ حقيقي، ونموٍّ حقيقي، وازدهارٍ حقيقي، وتخلصُ من التبعية، ومن التماس الخلاص من الخارج حيثُ تضطرب معاييرُ التسويات لحساب المصالح المتنافسة على تطويع هذا الوطن في خانة الاستلحاق التبعي، وتدمير اقتصاده لحســـاب اقتـــصـــاد الآخـــرين، تماماً مثل تدمير قواعد الحكم فيه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق