السبت، 23 مارس 2013

الاقتصادي والسياسي والتوازنات


الاقتصادي والسياسي والتوازنات
بقلم ميشال مرقص

(جريدة النهار 17/11/2006)


الوطن الصغير محكومٌ بالتوازن، إنها مسلّمة تم اختبارها، على الأقل في القرنين الماضيين، فلم تنجح مقوّمات الحياة السياسية والاقتصادية فيه، إلا عندما ينجح اختبار تحقيق التوازن، ليس فقط بين أبنائه وطوائفه، بل وأيضًا بين مجموعة الدول العالمية التي ترعى هذه الطوائف، وتتداخل مصالحها في إدارة شؤون دول العالم، منذ عصر الإمبراطوريات والتوسّع الاستعماري، إلى عصر العولمة والمؤسسات الاقتصادية المتعدّدة الجنسيات. ومنذ أرسى ميثاق 1943 التوازن السياسي والطائفي في تاريخ الوطن المعاصر، صار إحداث الخلل في هذا الميثاق، عنوانًا للصراع السياسي في انتظار تحقيق معايير جديدة لهذا التوازن. سياسيًا حدث الخلل مع صعود نجم الرئيس عبد الناصر، ومع توسّع نشاط المقاومة الفلسطينية أيام زعيمها ياسر عرفات، وأيام الوصاية السورية التي انقلبت إلى احتلال، وبعد نهايتها. وكان يحصل خللٌ دائم على صعيد الفرز الانتخابي منذ عهد بشاره الخوري إلى عهد إميل لحود، فتعدّد القوانين وصياغتها على قياس القوى الفاعلة وعدم ثباتها من دورةٍ إلى ثانية، جعلها أداةَ هدمٍ للنظام السياسي وأداةَ تدخلٍّ خارجي لمساندة الفرقاء المغلوب على أمرهم.

وصاحبَ الاضطرابَ في التوازن، خللٌ آخر على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. فاستئثار المدن الرئيسية بالإنفاق الحكومي، لا سيّما على صعيد توفير البنية التحتية وإنشاء المدارس والمستشفيات وتوفير فرص العمل في الإدارة العامة العسكرية والمدنية، والتغاضي عن إنماء الأرياف وتعميم الإنماء المتوازن والمستدام، أحدث الخلل الديموغرافي عن طريق النزوح الكثيف من الأطراف إلى العاصمة بيروت وإلى المدن الأخرى، فنمت الضواحي في شكلٍ فوضوي وتوسّع البؤس في المجمّعات السكانية في زنّّارٍ لفّ بيروت وجعلها في قبضة سكّان المخيمات تستنزف طاقتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية.

والخلل في توازن التنمية فرّخ حركات التمرّد  إذ عزّز موقع الأحزاب اليسارية الطامحة والطامعة في تقويض المؤسسات الحاكمة، أي في تعميق الخلل الضارب في التوازن السياسي الهش. كما نشأت حركاتٌ تحارب الفقر مثل حركة المحرومين التي انتظمت في حركة أمل، نظرًا للحرمان الكبير الذي عانى منه الجنوب والجنوبيون. وانتشار الفقر يؤهّل إلى الفساد وإلى تجاوز أحكام القوانين على صعيد توفير الخدمات المعيشية وتقديمات الرعاية الاجتماعية، فتضطرب موازين العدالة الاجتماعية ومعايير الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، كما يستشري الفساد في الجسم الإداري، بحسب ما توًصل إليه مؤشر مدركات الفساد لسنة 2006، إذ ربطت نتائجُه، تنامي حجم الفساد بتوسّع بيكار الفقر والفقراء. غير أن مصدر الفساد في لبنان هم الأغنياء وأصحاب النفوذ وليس الفقراء.

الوطنُ الصغير يعيش منذ أكثر من ربع قرنٍ في حالٍ من عدم التوازن. ما اعتقده أنّه توازنًا كان بفعل القوّة العسكرية الحاكمة، التي استظلّ فيء هينمتها، فريقٌ كبيرٌ من أبنائه، فتحكمّوا بالآخرين. وإذ تغيّرت معايير التوازن واختلفت قياسات جهات المضلّعات السياسية في التركيبة اللبنانية،  فذلك لا يعني أن إمكانات الاستمرار باتت متوفّرة بفعل الأمر الواقع، أو بفعل أمر السياسات الدولية. فإلى حينٍ، لم يكن يحكم التوافق غير الدول العالمية، أمّا اليوم فأضيفت دولٌ إقليمية لها تأثيرٌ ولا يمكن أن يتجاهله الحكماء في جمهورية الوطن الصغير. فانتصارُ هذا الوطن يتوقّف على مدى قدرة الجميع تجاوزَ الوفاقات الدولية والإقليمية ونجاحهم في نسج عباءة الوفاق الداخلي، أي العودة إلى توازن 1943 " لا شرق ولا غرب" مع قبول التعديلات التي فرضها الانحراف السياسي أو التعديل الديموغرافي.

وإذا كان الوطنُ محكومٌ بتحقيق التوازن السياسي، فالاقتصاد محكومٌ أيضًا به. إنّه ناتج السياسيّ، ولا أمل أن يقوى اقتصادٌ ويزدهر ويحقق الرفاه إلا بهذا التوافق السيّد لتحقيق التوازن. في إسرائيل اليوم، تنبئ المؤشرات الاقتصادية عن تخطيها نتائج الحرب التي شنّتها على لبنان وعجز الذي أقلق المجتمع الصهيوني، إلى جانب الفساد المستشري في الإدارة ومن وجوهه رئيس الجمهورية. ورغم أن ناتجها الداخلي سيتأثر بحوالي 1.5 نقطة أساسية سلبًا فيتراجع عن 5.5 إلى 4 في المئة في 2006، فإن حركة الاستثمار جعلت آثار الحرب والمخاوف منها، وراءها. هاولت بايكر الشركة الصانعة لبرمجيات وتجهيزات المعلوماتية اشترت مؤخّرًا، أسهمًا بقيمة 4.5 مليار دولار في شركة ميركوري الإسرائيلية العاملة في قطاع التكنولوجيا الرفيعة.

 أما في الوطن الصغير فيعلنُ وزير المال، أن عجز موازنة 2006 سوف يزيد، وأن خدمّة الدين لوحدها سترتفع من 3900 مليار ليرة إلى 4653 مليار ليرة، وأن الدين العام سيتجاوز 40 مليار دولار أميركي. وهو يضمّ صوته إلى صوت الفعاليات الاقتصادية، يرجو الأقطاب الممسكين بصمّامات الأمان السياسي أن يحكموا ضبطها ويريحوا المواطنين مما هم فيه: القلق، اليأس، القرف، انعدام الثقة، الفقر، الإفلاس، الإحباط والهروب من هذا المناخ الأسود الذي لا تنيره البصائر والقلوب ولا حتى تخصيص مبلغ 1200 مليار ليرة إلى مؤسسة كهرباء لبنان من أصل 1849 مليارًا خصّها مشروع موازنة 2006 للاستثمار، أي لتفعيل الاقتصاد وتعزيز الإنفاق العام على المشاريع التي تفعّل من النشاط الاقتصادي. علمًا أن موازنة 2006 كان يجب أن يكون مجلس النواب قد أقرّها في دورته العادية الثانية من 2005 ولا تتضمن آثار حربٍ حصلت في النصف الثاني من 2006!

إنّه الوطن الصغير، يُستنزف في قدراته البشرية والاقتصادية وفي إمكاناته على العطاء والابتكار. لقد تمّ تسميم المناخ والهواء الذي يتنفّسه الناس المتشوقون إلى اطمئنانٍ بعد تكاثر الأحداث الأمنية الاختراقية والرسائل الممهورة بتوقيع القاعدة والتهويل الشارعي الذي يغرق البلاد "بحق التعبير" و"شرعية التظاهر" و"التظاهر المضاد" بما يهدم آخر مدماك في صرح الثقة. إذ لا يكفي أن يطمئن المتواجهون المواطنين، بل يجب أن يطمئنّ المستثمرون من سلوكيات هؤلاء، سواء الاستئثارية أو الترهيبية، فالجميع يعرف قدرة كلّ فريق على تجييش جمهرة الناس وعلى إتاحة مجال تسلل المخرّبين. والجميع يعرف أن الشعارات التي أطلقها ويطلقها تتهاوى في مزابل التاريخ  أمام حقائق المجريات.

ليس المجال مجال تهديد الثقة بالاقتصاد ولا خلخلة ثقة المستثمرين ولا أمن السياح الذين يقصدون في عطلة الأعياد حتى ولو انحصر عددهم بأبناء الوطن من حملة جنسيات الدول التي احتضنتهم. فالمجال هو مجال إعادة لعبة التوازن الداخلي بين الأفرقاء المتصارعين، بعيدًا عن الضغوط العالمية والإقليمية قدر المستطاع. وإعادة التوازن إلى الاقتصاد وتحقيق هذا التوازن باستمرارٍ في إنماء المناطق كافّة. ولا يكفي أن ينصّ مشروع موازنة 2006 على إلغاء صندوقي المهجّرين ومجلس الجنوب. بل يجب إلغاء أسباب وجودهما بترصيد المساعدات والهبات، في وقت زاد عدد المهجّرين وتضاعفت حاجة الجنوبيين والجنوب إلى المساعدة.

في شباط 2007، تطرح شركة لا فارج الفرنسية في الأسواق المحلية، نوعًا جديدًا من الاسمنت من دون غبار. إنّه أكثر ليونة وقليل الاستهلاك للمياه ولكّنه أكثر صلابةً ومرونة. وإذ يشير النبأ إلى مدى اهتمام دول العامل المتقدّم بالابتكارات وإنفاق ملايين الدولارات أو المليارات على الأبحاث، في حين ننفقها على التكاذب المحلي عبر وسائط الإعلام، نأمل أن يجمع  المتخاصمين مثل هذا الإسمنت الأكثر صلابة، ليرتاح هذا الوطن من عبئهم الضاغط.

ألا يعي الجميع أن خلافاتهم حول "جنس الملائكة" أي جنس المحاور الخارجية والارتباط بها، مباشرةً وغير مباشرة،يدفع ثمنه غاليًا اقتصاد الوطن ودخلُ أبنائه ومؤسساته الهاوية نحو الإفلاس وصندوق خزينته العامة!

إلى متى هذا الاستهتار؟!